البديل الغائب بقلم : عمرو الشوبكي

البديل الغائب بقلم :  عمرو الشوبكي
البديل الغائب بقلم : عمرو الشوبكي

البديل الغائب بقلم :  عمرو الشوبكي

ما جرى فى مصر نتاج لتوازن القوى الموجود على الأرض منذ أن قامت ثورة 25 يناير والقوى المدنية تركِّز على الاحتجاج والرفض والمعارضة، فى حين خططت «الجماعة» ورتبت عملية وصولها للسلطة بشكل منظم وعبر انتخابات حرة لم تخلُ من بعض التجاوزات، واتهمت بعض القوى المدنية الإخوان بـ«سرقة الثورة» لتبرير عدم قدرتها على تقديم بديل حقيقى طوال المرحلة الانتقالية التى كسبها الإخوان، وهو اتهام يذكِّرنا بتعبير «المؤامرة الصهيونية» على المسلمين، والمؤامرات الخارجية على العرب، فمهما كان حجم المؤامرات الخارجية على بلادنا فإن هناك أسباباً داخلية تساعد المؤامرات الخارجية على النفاذ والنجاح، ونظرية المؤامرة ما هى إلا خطط من أطراف كبرى لتحقيق مصالحها نتيجة عجز الآخرين عن الدفاع عن أنفسهم وتحقيق مصالحهم. والحقيقة أن سيطرة الإخوان على السلطة ليست لأنهم سرقوا الثورة، إنما لأنهم كانوا الأكثر دهاءً وتنظيماً فوصلوا للحكم، ولو لم يكن ذلك قد حدث لكانت أطراف أخرى من داخل النظام القديم هى التى ستحتفظ بالسلطة ولن يصل إليها فى كلتا الحالتين الثوار الذين أشعلوها. والحقيقة يجب أن ننظر إلى ما جرى فى مصر على أنه نتاج لتوازن القوى الموجود على الأرض، فهناك قوى الاحتجاج التى أشعلت الثورة بعفوية، ولديها ثقافة احتجاجية تفننت وابتكرت فى مواجهة رموز السلطة القديمة والجديدة وقادة الحكومة والمعارضة، فتبحث لهؤلاء عن تصريح شارد هنا أو جملة منسية هناك حتى تبرر عدم «نقائهم الثورى»، ودشنت خطاب «يسقط» الشهير، من حكم العسكر الوهمى إلى حكم المرشد الحقيقى، دون أن تبذل أى جهد فى بناء مشروع سياسى بديل للإخوان أو الإدارة الفاشلة للمجلس العسكرى. وجاء وصول الإخوان للسلطة لتلوح فى الأفق فرصة جديدة أمام المعارضة لبناء بديل حقيقى لحكم الإخوان، بعد أن أثبتوا أن قدرتهم- الإخوان- على التأثير والإقناع كانت أكبر بكثير وهم فى المعارضة، وبعد أن خسروا دعم قطاع واسع من المصريين وأداروا تقريباً كل الملفات بطريقة سيطر عليها الاستحواذ وعدم الكفاءة. ونجحت المعارضة، ممثلة فى جبهة الإنقاذ، فى تحريك قطاع واسع من الشارع المصرى وحزب الكنبة والمواطنين الرائعين- وليس فقط النشطاء والزعماء والرموز- ضد الإعلان الدستورى الاستبدادى، وسياسة الجماعة الحاكمة، ولاحت فرصة حقيقية لصناعة بديل مؤسسى ومشروع سياسى قابل للتحقيق على أرض الواقع وليس فقط للاحتجاج والتظاهر. صحيح أن هناك ثقافة لقطاع من شباب القوى المدنية، نتيجة مرارات الماضى، قائمة على مخاصمة الدولة ونسج علاقة ثأرية معها، كما جرى أثناء حكم المجلس العسكرى، حيث لم يستطع الكثيرون التمييز بين المؤسسة العسكرية، التى بفضل تماسكها الداخلى أُنقذت مصر من سيناريوهات الفوضى والانهيار، وبين أداء المجلس العسكرى الذى كان نموذجاً لا يحتذى فى الضعف والتخبط والفشل، ويتحمل جزءاً كبيراً مما يجرى الآن. فالمؤكد أننا ندفع جميعاً ثمن أوهام وأساطير صدقناها، مثل أن أعظم ما فى الثورة المصرية أنها ليس لها قائد، وهى حالة لم تحدث فى أى تجربة ثورية أخرى، فقد غاب التوافق على شخص أو أشخاص، والمقصود هنا التوافق على مشروع سياسى محدد وليس الشعارات الديمقراطية العامة، وهو ما جعل البعض قضيته الوحيدة هدم أى قيادة تظهر سواء كانت فى الحكم أو المعارضة. والحقيقة أن البعض خاض معركة ثأرية مع مؤسسات الدولة ودفع «الداخلية» دفعاً للارتماء فى أحضان الإخوان بعد أن غيروا بكل سلاسة الوزير المهنى السابق أحمد جمال الدين، وأحضروا وزيراً جديداً حريصاً على «السمع والطاعة»، دون أن يثير الأمر معارضة أحد، وهو ما كان يجب أن يكون عامل رفض واحتجاج، لأن البعض مشغول بتجريم كل عناصر الداخلية ومهاجمة الأقسام والوزارات، وينسى أن صناعة البديل تستلزم وضع رؤية إصلاحية لعمل هذه المؤسسات، فرسالة الإخوان واضحة ومحددة: نحن لا نرغب فى إصلاح أى مؤسسة فى مصر إنما الاستحواذ والسيطرة عليها، أما قوى المعارضة فالرسالة هى أننا نرغب فى تطهير وأحياناً هدم هذه المؤسسات وإسقاطها، والصحيح هو أن المطلوب إصلاحها جراحياً، وليس الانتقام من أفرادها بل تحسين أوضاعهم مهنياً ووظيفياً. البديل ليس فقط احتجاجياً، رغم أهميته فى بعض الوقت وليس طوال الوقت، إنما صناعة بديل متكامل لإدارة مؤسسات الدولة وإصلاحها بعد أن شاخت وغابت عنها المهنية، والانطلاق من أن المجتمع المصرى كله مأزوم: مؤسساته وأحزابه وقواه الثورية، ولا يوجد أحد على رأسه ريشة يتصور أنه نموذج للنقاء الثورى أو التطهر الدينى فوق الآخرين. البعض ينسى أن الثورة المصرية واجهت «نظاماً» هو أقرب إلى «لا نظام»، فأحد العوامل الرئيسية وراء الانتصار السهل للثورة المصرية يكمن فى ضعف وهشاشة نظام مبارك، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التى فرضها على البلاد 30 عاماً، وربما من حسن حظ الثورة أن كل قيادات نظام مبارك بمن فيهم قادة المؤسسة الوحيدة المتماسكة (الجيش) كانوا قد تجاوزوا سن السبعين وبقوا جميعهم فى أماكنهم مرؤوسين لمبارك 20 عاماً مما جعل شرعيتهم فى الشارع محدودة وقدرتهم على المبادرة معدومة، وهو أمر مستحيل أن تجده فى تجربة أخرى فى العالم، من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا الشرقية مروراً بإسبانيا والبرتغال، التى كان كثير منها فى وضع شبيه بمصر فى الستينيات، أى هناك نظام سلطوى ودولة قوية بها مؤسسات تعمل وتعليم جيد وصحة معقولة وجهاز إدارى فيه حد أدنى من الكفاءة ودولة مليئة بالأسماء اللامعة والكفاءات القادرة على أن تقود البلاد نحو نظام جديد. إن احتجاج بعض قوى المعارضة على الـ«لا نظام» لن يحل المشكلة، لأن المطلوب هو أن تشارك فى بناء النظام الجديد، ومعركتها الحقيقية ليست فى نظرية «يسقط» السهلة، التى لم ندفع فيها ثمناً باهظاً مثل الليبيين والسوريين، إنما هى مشاركة حكم الإخوان فى صناعة النظام الجديد ولو من موقع المعارضة، والانتقال من حالة الـ«لا نظام» إلى النظام. المعارضة غائبة عن عملية اختيار رؤساء الأحياء ومستشارى الوزراء المنتمين للإخوان، الذين بدأوا يسيطرون على مفاصل هذه المؤسسات ويعملون لصالح الجماعة، فى حين أن كثيراً من شباب القوى المدنية مشغولون بمعركتهم مع الرئيس والوزير والمحافظ الإخوانى وليس ما يجرى على الأرض فى عمق مصر ومؤسساتها. مصر يمكن أن تسقط فيها الداخلية وتتحول إلى دولة ميليشيات، وسيدفع التيار المدنى ثمناً باهظاً لهذا الخطأ إذا حدث - لا قدر الله- فقد كان هو الأكثر صراخاً ورفضاً لدستور 71 المعدل، وفتح الباب أمام دستور الإخوان الجديد، وهو أيضا كان الأكثر إهانة للمؤسسة العسكرية والآن يطالب بعض رموزه- ضمناً أو صراحة- بعودة الجيش لحكم البلاد. المطلوب ليس عودة الجيش للحكم، لأنه لن يعود ولا يرغب- وهو ما قلناه مراراً من قبل- إنما الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة من السقوط والعمل على تقديم بديل سياسى حقيقى يحول دون هيمنة الإخوان الكاملة على عملية تحويل مصر من فوضى الـ«لا نظام» إلى «النظام»، لأن المعركة الحقيقية والكبرى تجرى فى هذه المساحة، أى عملية بناء نظام جديد على مقاس الإخوان، لأن الجزء الغالب من المصريين يرغب فى وجود نظام أياً كان لونه بعد كل هذا العناء من الفوضى والتخريب، وأعلن أكثر من مرة رفضه لأن يكون هذا النظام إخوانياً، ولم يجد من يساعده فى عملية البناء لصالح الجميع إنما معارضة وفق نظرية «يسقط الرئيس القادم».