إدارة الأزمة في مصر آخر / بقلم عاطف الغمري

إدارة الأزمة في مصر آخر / بقلم عاطف الغمري
إدارة الأزمة في مصر آخر / بقلم عاطف الغمري

إدارة الأزمة في مصر آخر / بقلم عاطف الغمري

يحدث أحياناً أن تشتعل في دولة ما أحداث عصيبة، لها أسبابها، هذا أمر ليس مستبعداً على الإطلاق، لكن اختيار طريقة التعامل معها، هو الذي يحدد النتيجة، إما بإطفاء لهيب الأزمة، وإما بتصعيدها وتعقيدها، وهنا يأتي علم إدارة الأزمات .

هنا يأتي دور صناعة القرار السياسي، الذي هو موضوع يحكمه علم وخبرة، تأتي من أصحاب الآراء الذين يتناقش معهم صناع القرار شريطة تنوع أفكارهم، وحتى لا يكون أصحاب الاتجاه الواحد بمثابة حجر على توسيع نظرته، وحصرها في زاوية، لا تسمح له بالإلمام بجميع أبعاد الموقف الذي يواجهه، وبالتالي لا يصل القرار إلى مستوى الأزمة .

لقد واجهت مصر في الأيام الماضية حالة من الانفلات، صاحبها عنف متصاعد، وإراقة دماء في عدد من المدن، وكان أخطر ما فيها تحرك أفراد مثيرين للعنف في خروج صارخ على القانون والشرعية، وكأن ليست هناك دولة .

والتعامل مع مثل هذه الظاهرة الخطيرة لا يصلح معه التركيز على آخر ملامحها، بل لابد من العودة إلى منبتها وأصل نشوئها في إطار ما يعرف بدولة القانون، فاحترام القانون في أي دولة هو شيء أشبه بسلسلة متشابكة متلازمة الحلقات، فإذا ما انفكت إحداها، فإن الخلل يمتد إلى بقية الحلقات . فرأس النظام في الدولة هو النموذج لترابط السلسلة . أما إذا بادر هو بقرارات تؤدي إلى تهافت ملامح دولة القانون، فهو بذلك يقدم المثل على تغييب ملامحها على أرض الواقع .

وهو قد فعل ذلك بداية من تحصين قراراته في مواجهة القانون، بالإعلان الدستوري في 22 نوفمبر ،2012 ثم ما تلا ذلك من تصرفات لبعض المؤسسات، التي امتنعت عن تطبيق أحكام صادرة من القضاء .

ومثل هذا المناخ يكون معبأ بأسباب تحريض المتعلقين والمارقين، الذين يعد انتهاك القانون شريعتهم، والذين يتحينون الفرص التي يرونها مهيأة للتصرف وكأن الدولة غير موجودة .

وكانت الفرصة سانحة لهم في جو الغضب العام، الذي تجسد بصورة واضحة في مناسبة الذكرى الثانية لثورة 25 يناير . ففي إطار الخروج الكبير للمصريين الغاضبين، بسبب عدم اكتمال تحقيق مطالب الثورة، كان من السهل أن يخرج أيضاً من لا ينتمون للثورة، وليست لهم بها أي علاقة، لكي يثيروا الفوضى التي تلائم طبيعتهم ونشاطهم، وهو ما صنع جو أزمة بالغة التعقيد، تقتضي من الدولة قرارات تهدئ موجات الغضب، وتحاصر المارقين دعاة العنف والقتل، وهي قرارات يلزم أن تخرج من رؤية استراتيجية متكاملة، وليس مجرد مهدئات، أو إعادة تكرار لمقترحات ودعوات، كانت تصلح حين كانت الأزمة في أدنى مستوياتها، مجرد خلافات سياسية .

فمثلاً كانت هناك الدعوة المكررة للحوار، بينما التعامل مع المستوى الجديد للأزمة يدعو لقرارات حاسمة، تهيئ الجو المناسب للحوار وليكن من بينها مثلاً: إعلان تشكيل حكومة جديدة تضم شخصيات تلك المواقف الوطنية المستقلة، والخبرة، والعلم والقدرات القيادية والإدارية، بعد أن ظهرت الحكومة في مظهر العاجز تماماً عن إدارة الأزمة، وأيضاً إعادة النظر في قرارات كانت السبب الرئيس في تفجير الأزمة، أما دعوة الحوار في حد ذاته، من دون التزام مسبق وقاطع بتنفيذ نتائجه، فمازالت الشكوك تحيط بجدواها، خاصة بعد ما حدث مع جولة سابقة للحوار، كان الرئيس قد أعلن أنه يضمن نتائجها، وبعدها خرج أنصاره من قيادات الإخوان يعلنون عدم اعترافهم بالحوار ونتائجه .

هو سلوك يعمق الشكوك القائمة بالفعل ويثير سحباً قاتمة من الغموض على الجهة التي تملك القرار السياسي . وهو وضع يضعف من هيبة الدولة، التي يدعمها ويحصنها الوضوح التام لطريقة صنع القرار، ودور من يتحمل مسؤوليته، وهو ما يحرص على الخروج على الدولة في الشارع .

فالدعوة للحوار في حد ذاته ليست حلاً، إذا لم تلتزم الدولة بوضع نتائج الحوار موضع التنفيذ وكل ذلك رهن بوضوح موضع صناعة القرار .

لقد كان تصاعد الموقف إلى ذروته المقلقة، يقتضي قرارات محددة تشكل واقعاً جديداً، يخرج البلد من دائرة الأزمة، فالشعب قد حدد أولوياته للنظام الجديد، منذ سنتين، تتصدرها العدالة الاجتماعية وتخفيف معاناته، ولم يجد هذا يتحقق، فخرج في ذكرى العام الثاني للثورة معرباً عن غضبته، وكان يلزم أن تكون هناك استجابة له، بإعلان محدد الملامح، متضمناً خططاً بعضها قصيرة المدى بحلول عاجلة، وخططاً طويلة المدى لإعادة بناء الدولة، وجعل مؤسساتها، خاصة الاقتصادية تقف على قدميها وليس بقرارات مهدئة عن طريق الاقتراض، أو برفع الضرائب، التي تزيد معاناة الفقراء ومحدودي الدخل، فضلاً عن تجاهل الدولة للمهمشين في العشوائيات والمناطق الفقيرة .

وإذا كان الدافع الاقتصادي  الاجتماعي من أول أسباب موجات الغضب بالصورة التي ظهرت بها، فإن انحياز النظام لجماعته، في سلسلة متصلة من التصرفات التي تعزز تمكينهم من الدولة، من دون التركيز على حل المشاكل المتراكمة والمستجدة، كان أيضاً من أهم أسباب الغضب العام، وقد حدث ذلك ابتداء من وضع دستور يفتقد للتوافق الوطني، فضلاً عن التوسع في أخونة الدولة بوضع عناصرهم في المواقع المؤثرة، والجور على الحريات، وهو ما نال الصحافة منه النصيب الثقيل، شمل قدراً كبيراً من التعدي على هوية الصحف القومية العريقة، باختيار قيادة تنتمي لنفس الجماعة أو تسير في ركابها، والتضييق على الكتّاب أصحاب المواقف الوطنية والرأي المستقل .

كل ذلك وغيره الكثير كان من أسباب تصعيد الغضب العارم، في كل مدن مصر، وفي وقت لا تزال فيه روح الثورة، تعتمل في الصدور، وفي إصرار على استكمال أهدافها .

ولايزال هناك تصور لدى البعض بأن انفرادهم بالقرار هو ممارسة للديمقراطية، بينما لا ديمقراطية من دون معارضة قوية ومؤثرة . فالدولة لها ساقان تمشي بهما، وإلا تعثرت، هما الحكم والمعارضة، ويلزم أن يكون لدى النظام الحاكم اقتناع بأنه يحتاج للمعارضة، وأن يستمع إليها ويتحاور معها، قبل أن يتخذ قراراته المهمة والمؤثرة على مصير الوطن . أما أن يفاجئ المعارضة بقرارات انفرادية، ثم يدعوها للحوار، فهو أمر لا يمد جسور التواصل بينهما .

لقد كان الشعب في حالة انتظار لقرارات من الرئيس، تخفف معاناته، وتحقق مطالبه، لا أن يفاجئ الجميع بإعلان دستوري يعصف بالحريات، وينقض على سلطة القضاء، لأنه بذلك قد زرع بذور المشكلة . وليس من سبيل لحل هذه المشكلة المعقدة، سوى العودة إلى أصلها وبداياتها وجذورها، وليس بالتوقف عند آخر مظاهرها . فالمشكلة ليست هينة، ولا يصلح لحلها اجتهادات فريق واحد، بل لا مفر من التوافق بين الجميع، وبالتزام من الدولة، باحترام ما يسفر عنه التوافق . . فمصر أكبر من أي فريق . وإذا كانت قد تعرضت لمشكلة كبيرة وصعبة، فإن القدرات التي تزخر بها مصر أكبر وأقدر تأثيراً في الخروج من هذه الأزمة، ونقطة البدء هي القانون، بالتزام من أولى حلقات السلسلة، ثم بفرضه على الجميع، وعلى كل من يخرج عليه .