لتحجر السياسي... والاحتكار الاستبدادي بقلم : د. عبد الحق عزوزي

لتحجر السياسي... والاحتكار الاستبدادي  بقلم : د. عبد الحق عزوزي
لتحجر السياسي... والاحتكار الاستبدادي بقلم : د. عبد الحق عزوزي

لتحجر السياسي... والاحتكار الاستبدادي

بقلم : د. عبد الحق عزوزي

دعونا نطرح سؤالًا وجيهاً على أنفسنا: «تصوروا معي أن الرئيس المصري تزامناً مع الأحداث المهولة التي تنقلها إلينا شاشات التلفزيون في الشوارع والميادين وبجوار القصر الرئاسي، يأخذ المايكروفون ويستقيل من منصبه، أشهراً معدودات بعد انتخابه...» هل هذا سيحل مشكل المجال السياسي العام المصري الذي أصبح عبارة عن حلبة صراع غير مستقيمة الأركان واللاعبين والحكام؟ لا أظن ذلك؛ وستخرج من رحم حلبة الصراع مشاكل جديدة وصراعات دامية ستنتقل إلى الشوارع والميادين والمرافق العمومية والخاصة بمعنى أن الدولة ستدخل في فتنة متعددة الأبعاد. فالذي يجري في حلبة الصراع السياسية المصرية لا يستقيم في ميزان قواعد العلوم السياسية.

عندما نرى مدينة مثل الإسماعيلية مهد جماعة «الإخوان المسلمين» في عشرينيات القرن الماضي يخرج منها غاضبون يحطمون مقر حزب العدالة والتنمية وعندما يتحول السخط إلى غضب شامل عقب الإعلان عن حالة الطوارئ وحظر التجوال، ويتصدى له بتنظيم دوري لكرة القدم وحفلات «السمسمة»، وعندما تصبح جمعات الغضب موضة أسبوعية دائمة تتخذ من المساجد نقطة لانطلاقها كأداة للضغط على رغم مرور عامين على ثورة 25 يناير وانهيار نظام مبارك... فإن هناك شيئاً ما يحدث ويقوض كيان مصر ويثير القلق والخوف على مستقبل البلاد.

إن بوارق الأمل التي سقت وجدان الملايين من البشر بسقوط النظام الاستبدادي تتحول إلى مآلات سياسية خطيرة ومهلكة لا يعلم مصيرها أحد، لأن أولئك الذين وقع عليهم عمل إطلاقها وتسيير فصولها في الميادين العامة هم نفسهم الذين يخرجون لحمل أولئك الذين أتوا بهم عن طريق صناديق الاقتراع على ترك كراسيهم... والنتيجة هنا هي أن الغموض يلف صورة المستقبل، وأن نشوة الانتقال الديمقراطي بدأت تتلاشى وتتبدد.

إن المغامرة بمصير الدولة بالتحجر والجهل السياسي مصيبة عظيمة ليس لها من دون الله كاشفة، لأن ذلك مؤذن بفقدان الاستقرار السياسي، وقنبلة موقوتة يمكن أن تشتعل آناء الليل وأطراف النهار تأتي على الأخضر واليابس وتقوض اللحمة الحامية للدولة... ويكفي الرجوع إلى دستور مصر الجديد وما سبقه وتبعه من سجال، وسجال على السجال، وخروج إلى الشوارع وإضرابات واستقالات، وتصوروا معي أن دستور مصر أنجز بناء على موقف موحد من الأطياف السياسية والمدنية، لكان ذلك وعياً سياسياً جديراً بأن يصفق له، ولوضعت في المجال السياسي العام قواعد صلبة يستند إليها الحكام والمعارضة، فلا الرئاسة استكملت شروط بناء نظام قوي ولا المعارضة يمكن الإشادة بها في التسوية الاجتماعية.

إن العبث بالحق العام خطر ومصيبة كبيرة. فالديمقراطية ليست حصيلة انتخابات في بيئة انتقالية فتية، وإنما حصيلة توازنات فعلية على أرض الواقع، وذلك يتطلب ممارسة سياسية متقدة وذكية، ودهاء وذكاء سياسيين لا يعلى عليهما... والمجال السياسي كما هو الآن في مصر لم يعد مجالًا للمشاركة وأداة للتداول الحر، بل مما يندى له الجبين ويصيب الرأس بالصداع أن بعضاً من ضروب السلطوية القديمة والاحتكار الاستبدادي بدأت تظهر إلى العيان وما ينتج عن ذلك من استئثار فئوي وفردي في اتخاذ القرار وتحقير الآخر.

ولا يظنن ظان أنه لو لم تكن هناك ثقة فإن نتائج الانتخابات والاستفتاءات هي المخرج، بدون ثقة عند المواطنين وبدون ثقافة ديمقراطية لا يمكن السير بعيداً في حديقة الديمقراطية، سيبقى المجال السياسي مجالاً سياسياً ذا سبعة أبواب لكل باب منها جزء مقسوم والعياذ بالله، الكفاءة أي القدرة على التسيير إضافة إلى عامل الثقة في جذب أبصار وأفئدة المواطنين ضرورة للبقاء في سدة الحكم... ومنذ سنتين ونحن نسمع ونرى احتكاكات مع السلطة القضائية والإعلام والإدارة الترابية في دول التحولات العربية ونرى الآن هجومات على وسائل النقل وعلى الفنادق وممارسات تخريبية... والذي وقع في مصر هو عملية تغليط إيديولوجي لرأي الناخبين، تبعه سوء القدرة على التسيير (وكل إنسان خلق لما هيئ له!) وإلا فماذا تفسر تلكم الفوضى والرياح العاتية التي تقلع ما تبقى من الانتخابات الأخيرة من حيث هو اختيار حر وطوعي وفعل سياسي وطني يترجم السيادة الذاتية!

إن الثورة الحقيقية ليست حصراً هي النصوص والقوانين والتشريعات، وإنما هي التغيير المادي الفعلي لمفهوم السياسة كشأن عام ولمفهوم السلطة السياسية كملكية جماعية. وهذا يتطلب تحولاً جوهرياً في الثقافة وكل الثقافة السياسية للمجتمع، بما في ذلك أولئك الذين يحكمون، لأنهم لم يأتوا من فراغ بل أتوا من المجتمع المدني للوصول آنذاك إلى الثورة الثقافية والوعي الثقافي والديمقراطي الحقيقيين، وقد يقول قائل إن الديمقراطية في الدول الغربية أتت بعد مخاض عسير ولم تأت على حين غرة، وهذا كلام يبدو لي مضيعة للوقت... بعض المعارضة الرشيدة حرصت على تقويم اعوجاج وتأمين نصاب الاستقامة في المجال السياسي العام وهذا شغلها ولكنها فشلت... والسؤال: أما آن الأوان لمصالحة وطنية وتقبل للمشاركة في إدارة الشأن العام بكفاءة وثقة حميدتين.. وأما آن الأوان لتليين الأفئدة والقلوب حتى يكون هناك مكان للآخر وهذا هو صلب الوعي السياسي الحقيقي، وهو الخلاص