المؤسسات الوطنية والمدارس المصرية بقلم : مصطفى الفقي

المؤسسات الوطنية والمدارس المصرية  بقلم : مصطفى الفقي
المؤسسات الوطنية والمدارس المصرية بقلم : مصطفى الفقي

المؤسسات الوطنية والمدارس المصرية

بقلم : مصطفى الفقي

لا يؤرقني شيء مثلما هو الحرص على الأركان الجغرافية والأعمدة التاريخية لهذا الوطن إذ إن “مصر” ليست ككل الأوطان، إنها خليط من الحضارات وسبيكة من الثقافات، وإذا سقطت الدولة المصرية  لا قدر الله  فإننا سوف ننتظر معجزة بشرية لكي نستعيد وجودها، إن الفساد والاستبداد اللذين كنَّا نعانيهما هما قشور سطحية على سقف الوطن أمكن إزالتها في ثمانية عشر يوماً، أما اهتزاز الأركان أو اختلال الأعمدة فإن ذلك قد يحتاج إلى عقود قادمة بل ربما تتأثر به قرون لا تزال في ضمير الغيب، وتعانيه أجيال مقبلة لن تذكرنا بالخير . ولعلنا نفصل شيئًا مما أجملناه في النقاط التالية:

* أولاً: إن “مصر” ليست دولة “هامشية” ولكنها بلدٌ “استثنائي” بمنطق المكان والزمان والسكان ولا يجب الاستهانة بعمقها أو العبث بهويتها فلا يمكن لنظام سياسي عابر أن يغير من شخصيتها الدولية أو مكانتها الإقليمية ولا تركيبتها المحلية، لقد حاول طغاة وبغاة وغزاة أن يفعلوا ذلك على مر العصور ولكنهم دخلوا زوايا النسيان فأهملهم التاريخ، ويكون واهماً من يتصور أن مصر تتغيَّر بالإجراءات والقرارات والقوانين أو حتى بالدساتير، فمصر أعمق وأعرق من ذلك بكثير، إن مصر صانعة التقاليد الفكرية في المنطقة، ومستودع الكفاءات البشرية في الإقليم، ومصدر التنوير في القرنين الأخيرين على الأقل، إنها إلهام الشعراء وثراء الأدباء وقلعة العروبة والإسلام .

* ثانياً: إن مصر دولة مؤسسات، وليست هذه عبارة إنشائية عابرة ولكنها توصيف دقيق لمصر “الأزهر الشريف” و”الكنيسة القبطية”، مصر الجامعات والجمعيات الأهلية والأوبرا المصرية، مصر الأحزاب والنقابات، مصر البرلمان والدستور التوافقي والحركة الوطنية المتواصلة، إنها مصر التي تعرف أكبر مدرسة للقضاء الشامخ وأقدم مدرسة في الدبلوماسية النشيطة فضلاً عن أكبر جيوش المنطقة وأذكى جهاز شرطة فيها، إنها مصر مدرسة “الري” العريقة ومدرسة “السكة الحديد” التي تعتبر الثانية في العالم كله منذ أن بدأ عمال (الدريسة) يتعاملون مع “القاطرة البخارية” عام 1854 فضلاً عن مدرسة “البريد” المصري أيضاً، إنها مصر الصحافة والمسرح والسينما، مصر النيل والأهرام وأبي الهول، مصر المعابد والكنائس والمساجد، مصر شوقي وحافظ وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، مصر أم كلثوم وعبد الوهاب، مصر الفلاحين والعمال، مصر الفقراء والمعذبين في الأرض .

* ثالثاً: إن مصر بلدٌ غني الموارد ولكن شعبه فقير، عريق الحضارة ولكن شعبه لم يترب سياسياً، وليس لديه الوعي الكافي بالحاضر والرؤية الشاملة للمستقبل، لذلك يقع فريسة للفوضى أحياناً وفريسة للديكتاتورية أحيانًا أخرى، ورغم أنه من أعظم شعوب الأرض وأكثرها تجانسًا وأشدها اندماجًا إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من الفصل بين هموم الدنيا وشواغلها وبين روح الدين وإلهامه، فهو صريع الفهم المغلوط للعلاقة بينهما، ثم هو ضحية حكامه على مدار السنين، يدفع الثمن دائمًا ولا يتوقف عن العطاء لغيره من دون حدود لذلك فهو يحتاج في هذه المرحلة إلى يد حانية تضمد الجراح وتنتزع الأحقاد وتزرع روحاً جديدة في جسدٍ ترهل وشاخ وكاد أن يذوي .

* رابعاً: إن الدور الإقليمي المصري الذي مر بمعارك قادش وحطين وعين جالوت وصولاً إلى حرب تحرير الأرض في أكتوبر 1973 لا ينكمش أبداً إلا بتدهور التعليم المصري وتراجع الثقافة الوطنية، فمصر القوية هي صاحبة الدور الإقليمي الفاعل لا بقواتها المسلحة فحسب ولكن بأدوات التنوير من قواها الناعمة التي اعتمدت على المعلم والطبيب والمهندس وواعظ المسجد وراعي الكنيسة، مصر التي علمت وطببت وشيدت، مصر التي لم تعرف التعصب ولم تتعود على التشدد ولم تتعلم العنصرية ولم تكره الأجنبي، بل رفعته على أبنائها، وأعطته من الحفاوة والتكريم ما جعلها ملتقى للشوام واليونان والأرمن والطليان وغيرهم من شعوب الأرض الشقيقة والصديقة  .

* خامساً: إن مصر بلد وسطي النزعة معتدل المزاج  انعكست على شخصيته الجغرافيا وانطبعت عليه بصمات التاريخ، لا يعرف الانغلاق ولن يعرفه، لا يرحب بالانزواء ولن يحتمله، بلد منفتح على غيره متواصل مع سواه، بلد يملك ذكاء الإبداع أكثر مما يملك من ذكاء العمل ولذلك رماه البعض بصفات سلبية مثل “الفهلوة” أو “احتواء الآخر بسرعة” وتلك كلها سلبيات مصدرها توقد الذهن وتوهج العقل، لذلك يسعى المصري دائماً  رغم الديكتاتوريات المتعاقبة  نحو الحرية التي هي سبيل الإبداع مثلما أن الحاجة هي أم الاختراع!

 . .إننا لا نريد من هذه السطور الموجزة أن نتغنى بأمجاد مصر فقد كفانا ذلك الشيخ السعودي الذي يطوف ببعض الدول العربية ليرفع من معنوياتها ويشد من أزرها، وقد كانت خطبة الشيخ “العريفي” في مسجد “عمرو بن العاص” بالقاهرة شهادة من أخ لإخوته ورسالة من شقيق لأشقائه، لعلنا ندرك قيمتنا الحقيقية ونخرج من هذا المشهد العبثي الذي نراه الآن! إن مصر أكبر من أن يبتلعها فصيل سياسي أو تحتويها جماعة بذاتها لذلك ينبغي ألا ينزعج المصريون، فمصر باقية والكل ذاهبون . . وليس أمامنا من طريق إلا أن نعمل جميعًا بغير استثناء وبنية خالصة وروح صادقة من أجل المصالحة الوطنية الشاملة التي لا تسقط نظرية الثواب والعقاب، ولكنها تفتح الطريق أمام فصل جديد من حياة المصريين، إذ لا يمكن أن يكون الاختيار بين “الفساد” أو”الفوضى” خصوصاً بعد أن سالت دماء زكية وسقط شهداءٌ هم جزء من النسيج المصري مهما اختلفت أفكارهم أو تعددت انتماءاتهم . إن مصر تستحق أفضل بكثير مما هي عليه، لذلك فإن تدهور السلوك العام وتراجع البنية الأساسية وتهاوي المفاهيم القيمية هي كلها نواقيس خطر يجب أن ننتبه إليها قبل فوات الأوان حين لا يجدي الحزن بعد أن تغيب الرؤية وتعم الفوضى ويتراجع العقل ويختفي الضمير .