"الإخوان": المعارضة والسلطة ... بقلم علي جرادات

"الإخوان": المعارضة والسلطة	... بقلم علي جرادات
"الإخوان": المعارضة والسلطة ... بقلم علي جرادات

"الإخوان": المعارضة والسلطة... بقلم علي جرادات

بمعزل عن النوايا، قاد “الإعلان الدستوري” للرئيس المصري، مرسي، نهاية العام الماضي، إلى نشوء استقطاب فكري وسياسي وشعبي ومجتمعي غير مسبوق، تحول إلى صراع ميداني، كبّد مصر الشعب، خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة . وعلى عكس توقعات مَن أوحى للرئيس بهذا الإعلان، لم يفضِ نجاح غرضه، تمرير مشروع دستور غير توافقي، إلى تهدئة هذا الصراع، بل إلى اتساع رقعته، وزيادة حدته . فعلى صلة بما تقدم، وبما لدى الرئيس المصري من صمم سياسي، وبما لدى جماعته، (“الإخوان”)، وحزبه، (“الحرية والعدالة”)، من إصرارٍ على المغالبة ونفيٍ للمشاركة، تحول إحياء الذكرى السنوية الثانية لثورة 25 يناير إلى طورٍ نوعي أعلى من التصعيد، والاستقطاب، والاحتراب، الفكري والسياسي والشعبي والمجتمعي بين “ميدان ثائر بلا إخوان” و”سلطة قمعية يحتكرها الإخوان”، ما أفضى إلى خسائر جسيمة في الأرواح، (عشرات الشهداء ومئات الجرحى)، وإلى خسائر كبيرة في الاقتصاد والممتلكات العامة والخاصة، وفوق هذا وذاك، بل، قبل هذا وذاك، إلى الاقتراب أكثر، فأكثر، من حافة إحلال سيادة الميليشيات، محل سيادة الدولة، ما اضطر الجيش إلى الخروج عن صمته، حيث حذر وزير الدفاع، الفريق عبد الفتاح السيسي، من أن يقود التمادي في هذا الصراع إلى انهيار مصر الدولة، ما يؤكد أن، هنالك، (فعلاً) ما يدعو للقلق، (وربما للخوف)، على مصر . أما لماذا؟

 

كان المظهر السلمي هو المظهر الطاغي في ثورة 25 يناير، لكن يبدو أن قيادة “الإخوان المسلمين” التي اعتلت السلطة على أكتاف هذه الثورة من دون أن تحظى بشرف إشعالها أو قيادتها، تصرّ على إغراق موجاتها السلمية المتجددة، في عنف لا تحمد عقباه على مصر الدولة والشعب والمجتمع والدور والمكانة، ولا ينتج إلا عنفاً مقابلاً تغذيه قوى الثورة المضادة، داخلياً وخارجياً، ويجد له في حالة مجتمعية مثقلة بالفقر والبطالة والأمية واليأس والإحباط مرتعاً خصباً . لكن الأمل، كل الأمل، يبقى في شعب الثورة، وفي ما تبديه القوى الوطنية والائتلافات الشبابية، من صبرٍ، وطول نفس، وحرصٍ على استمرار سلمية ثورة شعبها حتى تحقيق مطالبها، وفي ما يبديه جيش مصر الوطني من حرصٍ على حماية مصر الدولة، ومن عدم حماسة للتعرض لجماهير الشعب وتظاهراته السلمية كما تدعوه إليه، بمواربة، جماعة “الإخوان” التي لم تكتفِ، فقط، بدفع ميليشياتها وميليشيات مَن يواليها، (أحياناً)، إلى قمع التظاهرات السلمية ومحاصرة مؤسسات الدولة، كما حصل في محيط قصر الاتحادية ومقر المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي، بل، تصر، أيضاً، على توريط الشرطة في قمع هذه التظاهرات السلمية التي بفضلها، أساساً، وأولاً، بلغت سلطة تستخدمها اليوم وسيلة لإعادة إنتاج النظام السابق، بمناورات مكشوفة عمادها “التفرد بالسلطة بأي ثمن، وبكل وسيلة” الذي لم يحصد حتى الآن غير إنتاج معارضة سياسية وشعبية، ونظن أن استمراره لن يحصد غير توسيع هذه المعارضة، وتعميقها، وزيادة توحيد أطرافها، ولعل في انضمام حزب النور السلفي لمطالب “جبهة الإنقاذ الوطني” ما يشي بالكثير على هذا الصعيد . كل ما تقدم هو، (برأيي)، نتائج منطقية لمقدمات تحيل إلى إشكاليات، وتناقضات، والتباسات، علاقة جماعة “الإخوان” بالسلطة قبل وبعد توليها، فكراً وسياسة وتنظيماً . أما لماذا؟

 

عبر بناء تنظيم سري حديدي الانضباط تبنى، (كاتجاه عام)، خطاً سياسياً براغماتياً حتى العظم، وتخفَّى، ولا يزال، خلف خطاب ديني “يشيطن” المنافس، و”يقدس” الذات، نجحت جماعة “الإخوان” المصرية في كسْبِ قاعدة شعبية واسعة رفعتها على أكتاف ثورة 25 يناير إلى السلطة، لكن هذا النجاح لم ينهِ الجدل حول تأويلات متنوعة لأسباب بقاء الجماعة ثمانية عقود في صفوف المعارضة، بل، وكان من المنطقي أن يستعر هذا الجدل في ضوء مفارقة أن تكون ثمانية شهور، (فقط)، من وجود الجماعة في السلطة كافية لإظهار الفشل في الحكم، وفي الحفاظ على الشعبية، عدا كفايتها لتأسيس، وبلورة، معارضة سياسية وشعبية آخذة بالتوسع والتعمق والتوحد ضد الجماعة وسلطتها . هنا، بوسع قيادة “الإخوان” إحالة الأمر كله إلى كراهية الخصوم الأيديولوجية المسبقة للجماعة، وإلى اتهامهم بما يمكن تسميته ب”اللا إخوانية”، لكن السؤال الأساسي، يبقى: هل كانت “اللا إخوانية” هذه رغماً عن تاريخ الجماعة، أم بفضل ما في هذا التاريخ من ممارسات مثقلة بالتعالي، وتفضيل الذات على الموضوع، وتقديم الحزبي على الوطني، والحنث بالوعود، وصولاً إلى مساواة برنامج ثورة 25 يناير العام ببرنامج الجماعة الخاص، المرادف لمساواة السياسي الاجتماعي المتحرك والمعقد بالأيديولوجي التبسيطي الثابت، وكأنه هو؟

 

في هذه الممارسات الواقعية الملموسة، وليس في التفسيرات “الإخوانية” الأيديولوجية، يكمن سر مفارقة قدرة ثمانية شهور على هزِّ بناء ثمانية عقود . فهذه الممارسات تؤكد أن ذهنية قيادة الجماعة أضيق من أن تدرك، وتتصرف على أساس: أن ما بعد ثورة 25 يناير هو غير ما قبله تماماً، وأن زمن سلطة الحزب الواحد قد ولى إلى غير رجعة، وأن زمن “الحاكم بأمره” صار خارج الممكن التاريخي، وأن زمن تحصين قرارات السلطة التنفيذية ضد رقابة القضاء المستقل وانتقادات الشعب السيد، قد انتهى، وأن العودة إلى تفعيل قانون حالة الطوارئ، وفرض حظر التجول، صارت غير مجدية في التعامل مع جماهير ثائرة، لا في مدن قناة السويس التي سخرت منها، وتحدتها، ولا مع جماهير بقية المدن المصرية، وأن شعباً ثار لن يهدأ إلا بتحقيق مطالبه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وأن استقراراً لاختطاف نتائج ثورة غير ممكن من دون تحقيق مطالبها، ما دام “الشباب” الذي أطلق شراراتها طاقة ثورية موضوعية فاعلة وسط شعب يلتف حولها، وأن الاتكاء على التهدئة مع “إسرائيل” العدوانية التوسعية إياها، وعلى التحالف مع الولايات المتحدة الناهبة إياها، لمواجهة الشريك الوطني المطالب بتحقيق أهداف الثورة لن يحصد سوى ما حصده النظام السابق، أي ضرب الاستقلال والسيادة الوطنيين، وأن استمرار العداء الأيديولوجي لثورة ،1952 والقطع المريب مع انجازاتها الوطنية والقومية والاجتماعية، برغم ربع كأسها الفارغ، لن يفضي إلا إلى زيادة التمسك الشعبي المصري بها، وإلى رفع صور قائدها في ميادين الثورة، وأن اتهام المنافس الوطني ب”الكفر” صار عملة مضى زمانها، وأن تهمة “الفلول” وتلقي التمويل الأجنبي ونشر الفوضى أصبحت نكتة، خصوصاً أنها تصدر عن جماعة مجهول مصدر تمويلها، ومكشوفة صفقاتها مع بقايا النظام السابق، ومعروف حدَّ الفضيحة تبنيها لسياسته الخارجية والاقتصادية إياها المنحازة لكبار رجال المال والأعمال والتجار على حساب عشرات ملايين المصريين المطحونين بالفقر والبطالة والأمية والعيش في “العشوائيات” والمقابر .