الهويـة والاغتـراب السياسي / بقلم د. حسن حنفي

الهويـة والاغتـراب السياسي / بقلم د. حسن حنفي
الهويـة والاغتـراب السياسي / بقلم د. حسن حنفي

الهويـة والاغتـراب السياسي ... بقلم د. حسن حنفي  

إذا كان هيجل قد اكتشف الاغتراب الميتافيزيقي، واكتشف فيورباخ جذوره في الاغتراب الديني، فإن ماركس قد كشف جذوره في الاغتراب السياسي. فالاغتراب في الوضع السياسي الاجتماعي يفقد العامل هويته لدى صاحب العمل الذي يملك عمله، وبالتالي يمتلك حياته ووجوده. كما يفقد الفلاح هويته حيث يمتلك صاحب الأرض نتاج عمله ويستحوذ على محصوله. ولا يبقي له إلا ما يقيم أوده، ويستولي على "فائض القيمة". فبدلاً من أن يمتلك الفلاح الأرض يصبح مرتهناً لها. فالمِلكية أساس الاغتراب. وبدلاً من أن يمتلك العامل نتائج عمله يمتلكه صاحب العمل. وبدلاً من أن يمتلك الفلاح محصوله يمتلكه الإقطاعي. التحرر إذن يبدأ بتحرر المِلكية. واسترداد الهوية هو الطريق إلى إنهاء الانقسام بين الوجود والماهية، واسترداد وحدة الوجود الإنساني، وذلك لا يتم إلا بالتغيير. فكما خرجت الماهية من الوجود قسراً في عصر العبودية والإقطاع تعود إليه في عصر التحرر والثورة. وهذا هو موقف ماركس الشاب الذي ما زال حينها هيجلياً فيورباخياً ،ولكن محللاً الاغتراب ليس على مستوى الميتافيزيقي، مثل هيجل ولا الاغتراب الديني، مثل فيورباخ، بل الاغتراب الاجتماعي. ومن ثم لا يسترد الإنسان هويته إلا إذا صحح وضعه الاجتماعي، وامتلك نتائج عمله، وشعر بقيمته وتحرر من وضعه الطبقي. ولا يتأتى ذلك إلا بالصراع الطبقي. وتحرير العبد من السيد.

وهذا هو الإحساس بالشقاء، أو سبب نشأة الوعي الشقي. يوجد الإنسان ولا يوجد، يعمل ولا يحصل على نتاج عمله، ينتج ولا يعود عليه إنتاجه بشيء. يوجد لغيره، ويعيش لآخر، ويظل منقسماً بين ما يريد وما لا يستطيع، بين ما يبغي وبين ما يحقق. ويتراكم الوعي بالبؤس أو الوعي بالشقاء حتى يصبح البؤس هويته، والشقاء ماهيته. وتنطفئ هويته الأصلية وتنزوي ماهيته الأولى إلى حين.

 

وقد يتولد الكبت وطمس الهوية عن طريق الخلاف الأيديولوجي بين الحكم والمحكوم. لقد حلل ماركس الاغتراب الاجتماعي والسياسي لوضع العمال والفلاحين في المجتمع الصناعي والمجتمع الإقطاعي. فالكبت الأيديولوجي كان قد تم التحرر منه عند الإصلاح الديني قبل ذلك بقرنين من الزمان. الكنيسة ضد معارضيها، والكاثوليك ضد البروتستانت. أما في العالم الإسلامي، فالقهر والإزاحة قد يقعان ضد فئات تنتسب إليها بعض الطبقات الاجتماعية، فقراء وأغنياء عليا ودنيا ومتوسطة. فالأيديولوجيا تخترق الطبقات. والهوية الأعمق من الولاء الأيديولوجي قبل الانتساب الطبقي. وهو ما لم تدركه الماركسية العربية التي ظلت على اعتقادها الماركسي التقليدي أن الانتساب الطبقي سابق على الولاء الأيديولوجي.

 

وقد يتحول كبت الهوية إلى ثورة مفاجئة. إذ تكمن الهوية ولكن لا تنعدم، فالهوية هي أصالة الوجود. تنعدم بانعدامه، ولما كان الوجود باقياً، الفردي، أو الجماعي، فإن الهوية هي الباقية. بل إنها تشتد وتزداد وترفض ما سواها، كما حدث عند بعض الجماعات الأصولية.

وقد يتحول الوجود الإنساني من العدم المطلق إلى الوجود المطلق، من السلب المطلق إلى الإيجاب المطلق. وتتحول الهوية المنطوية المنكمشة المتقلصة إلى الهوية المنبسطة المنفرجة المتمددة. تتضخم الهوية بحيث تطغى على الوجود ذاته.

وتنفجر الهوية ضد كل مظاهر الاستبداد السياسي والثقافي عن طريق الاستبعاد والتهميش وتزوير الانتخابات كما حدث في الانتخابات المصرية قبل الثورة، بل وتدبير الانقلابات إذا ما نجحت جماعة غير مرغوبة، جماعة "الإنقاذ" مثلاً، في الجزائر، ونشوب حرب أهلية بينها وبين الجيش كلفت أكثر من مئة ألف قتيل.

تنفجر الهوية ضد انتهاك الحقوق والإهانة. فالهوية هي الحارسة للوجود، والضامنة لبقائه. وقد يكون اللون وسيلة لتأكيد الهوية تحت الاضطهاد مثل اللون الأسود. هوية منبسطة وممتدة وهي الهوية البيضاء على هوية منكمشة ومنطوية، وهي الهوية السوداء بصرف النظر عن الوضع السياسي الاجتماعي للجماعة السوداء وحقوق الإنسان. فاللاوعي العنصري ما زال قابعاً في المجتمع الأبيض مهما تغيرت القوانين العنصرية إلى قوانين إنسانية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات. فبقدر ما تضغط الهوية البيضاء تتفجر الهوية السوداء. وإن لم تستطع الهوية السوداء أخذ حقوقها سلماً فإنها قد تتفجر عنفاً، وبقدر ما يكون استبداد اللون الأبيض يكون تفجر اللون الأسود. وهو ما زال حادثاً في الولايات المتحدة الأميركية وما قامت بسببه الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر بسبب تجارة العبيد. وقد ألقيت القنبلة الذرية الأولى في العالم من الجنس الأبيض على الجنس الأصفر مع أن ألمانيا أيضاً كانت هي التي أشعلت الحرب أولاً ولكنها كانت من الجنس الأبيض. بل إنها كانت تعتبر نفسها خلاصته!

يتمثل فقدان الهوية في العنف، وغياب رابط للذات. تصبح عاصفة هوجاء. هويتها خارجها تبحث عنها. تمتد خارج حدودها. لا تعترف بهويات الآخرين مثل النازية والفاشية والصهيونية. كما تجلى ذلك في الاستعمار والتبشير. فالنازية ترى أن "ألمانيا فوق الجميع"، وأن الجنس الألماني هو أنقى الأجناس، وأن الجنس الآري أرقى من الجنس السامي. الآخر ليس له إلا أفران الغاز أو معسكرات الموت. وقد كانت النازية ترجمة للعنصرية البيولوجية التي سادت القرن التاسع عشر، وتطور الأحياء، والتي بلغت ذروتها في نظرية النشوء والارتقاء وفي موسيقى فاجنر وفلسفة نيتشه. والفاشية صيغة أخرى للنازية الإيطالية. الهوية الزائدة تؤدي إلى العدوان، وعدم الاعتراف بالغير.

والنزعات القومية المتطرفة أيضاً تعبير عن تخضم الهوية، والانتشار خارج الحدود في مناطق جغرافية يصعب تقسيمها إلى دول، مثل أواسط آسيا أو جنوب شرق آسيا، أو وسط وجنوب إفريقيا أو شرق أوروبا أو أميركا اللاتينية. فالمنطقة كلها وحدة جغرافية وتاريخية وثقافية واحدة. أما اللغة فإنها لهجات محلية متعددة بصرف النظر عن الحدود. ففي داخل القطر الواحد أكثر من لهجة، واللهجة الواحدة قد توجد داخل القطر وخارجه عبر الحدود.

والصهيونية أيضاً قومية متطرفة تأخذ الدين ذريعة وأساطير المعاد وسيلة لاحتلال أرض الغير، فلسطين، قامت على نفس الأسس التي قامت عليها أيديولوجيات القرن التاسع عشر العنصرية والرومانسية، والعودة إلى الأرحام. فاليهودي هو صاحب الأرض منذ الأزل بزعم عهد عقده الله مع بني إسرائيل بتملكيهم هذه الأرض وتوريثها لأحفادهم إلى يوم الدين. وقد كلفت هذه العنصرية تشريد شعب بأكمله، نصفه في الخارج في مخيمات، ونصفه في الداخل تحت الاحتلال.

ولما كانت الهوية نسقاً من القيم وفي مقدمتها الكرامة، فإن أي نيل من كرامة الإنسان يعيد طرحها بقوة كما حدث في حرق البوعزيزي نفسه عندما نالت شرطية من كرامته. وكان ذلك بداية اندلاع الثورة في المدينة، ثم الولاية ثم في تونس بأكملها، ثم امتدت الشرارة إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا. فقد انتشرت الثورات الأخيرة في بلدان الحراك العربي دفاعاً عن الكرامة قبل الحرية والعدالة، لا فرق بين كرامة الفرد وكرامة الشعب، كرامة المواطن وكرامة الوطن.

بل امتدت ثورة الكرامة خارج الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. فالكرامة بلا حدود. امتدت إلى الإقليم المحيط إلى حوض البحر الأبيض المتوسط في جنوب أوروبا، البرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا، واليونان، وإلى شرقه في روسيا. فأوروبا وآسيا بعدان إقليميان للمنطقة العربية. بل امتدت إلى ما وراء الأطلسي في حركة "احتلوا وول ستريت" ضد النظام الرأسمالي الذي يطعن في كرامة الفقراء لحساب الأغنياء.