استحالات سياسيّة تحكم المنطقة / بقلم حازم صاغية

استحالات سياسيّة تحكم المنطقة / بقلم حازم صاغية
استحالات سياسيّة تحكم المنطقة / بقلم حازم صاغية

استحالات سياسيّة تحكم المنطقة / بقلم حازم صاغية

بات يبدو واضحاً أنّ جماعة "الإخوان المسلمين" لن تكون قادرة على حكم مصر. هذا ما ينمّ عنه بوضوح ردّ فعل الشارع المصريّ في احتفالات الذكرى الثانية لثورة يناير 2011 وما صحب ذلك من دم غزير. فـ"الإخوان" مهما فعلوا، فيما خصّ الانتخابات والدستور، يبقون قوّة معارضة لا قوّة سلطة. وهذا ناجم عن افتقارهم الكامل إلى برامج حكم لم يفكّروا أصلاً فيها، مكتفين لعقود طويلة بترداد عموميّات سياسيّة- دينيّة.

والأمر هنا يتفاقم على نار حامية، ليس فقط بفعل احتدام الأزمة الاقتصاديّة التي لا يملك "الإخوان" أيّ تصوّر لعلاجها، ما خلا الاقتراض من المؤسّسات الدوليّة المانحة، بل أيضاً لأنّ "الإخوان" خسروا العطف الذي كسبوه في العهد السابق بوصفهم ضحايا، من دون أن يغنموا التعاطف معهم بوصفهم نظاماً فاشلاً.

ويعزّز استحالة الحكم الإخوانيّ أنّ ثورة يناير أطاحت طريقة الحكم المعمول بها منذ انقلاب يوليو 1952. فقد استطاع الرؤساء الثلاثة المتعاقبون، عبدالناصر والسادات ومبارك، أن يثبّتوا الاستقرار بفضل جهاز الدولة الممسك بتلابيب المجتمع ومعه انعدام الفصل الفعليّ بين السلطات. صحيح أنّ هذه العوارض استفحلت في العهد الجمهوريّ الأوّل (عبد الناصر)، وتراجعت قليلاً في العهدين التاليين (السادات ومبارك)، إلا أنّها لم تتغيّر جوهريّاً. أمّا الآن، وبفعل الثورة ونزول الناس إلى الشارع وإطاحة "شرعيّة" انقلاب يوليو، فإن "الإخوان" لن يستطيعوا أن يحكموا بالطريقة السابقة للرؤساء الثلاثة. يدلّ إلى ذلك عدد من الأمور في عدادها النقد القويّ الذي يواجه الإجراءات الإخوانيّة فيما خصّ تقييد الحرّيّات في عمومها، واندفاع موجات الاستخفاف بالإسلاميّين والتشهير بهم في ظلّ حكم إسلاميّ! يضاف إلى ذلك أنّ علاقات مصر الدوليّة وحاجاتها الاقتصاديّة تزيد في الصعوبات الماثلة أمام احتمال استبداديّ كهذا. والحال أنّ الرسميّين الأميركيّين والأوروبيّين، لم يتلكّأوا، وفي أكثر من مناسبة، عن ربط الموقف من مصر ومن مساعدتها بمدى ما تنجزه على صعيد الحرّيّات واحترام حقوق الإنسان والأقليّات فيها.

 يدلّ على هذه الوجهة، مثلاً لا حصراً، أنّ الدستور الجديد، على رغم مساوئه الكثيرة، اضطرّ، في المادّتين 48 و49 أن يقدّم ضمانات لتأسيس صحف ومجلات جديدة، وأن يعد بتضييق قدرة السلطة على كبح الإعلام.

 وعلى نحو أقلّ دراميّة وحدّة تتكرّر في تونس استحالة الحكم الإخوانيّ نفسها. هكذا نجد، وبإيقاع يوميّ تقريباً، كيف يتعثر "الإخوان" التونسيّون من حزب "النهضة" في حكم بلدهم، وكيف تتزايد ثقة المعارضة المدنيّة بنفسها وبقدرتها على المبادرة.

 ومثل هذه الاستحالة السلطويّة نلقى ما يعادلها في العراق، مع اختلاف في الظروف والتسميات. فقد اتُّهم رئيس الحكومة نوري المالكي، غير مرّة، بمحاولة بناء ديكتاتوريّة على الطريقة الصدّاميّة البائدة. لكنّنا نرى الآن، في الأنبار وفي بقية محافظات الوسط والغرب، أنّ قبضة المالكي على أجزاء واسعة جدّاً من العراق مشكوك فيها. وهذا ناهيك عن الصعوبات الفائقة أمام السلطة المركزيّة أن تستخدم الجيش ضدّ الأكراد في الشمال، على غرار ما كان يحصل في العهود العراقيّة السابقة، بالغاً ذروته مع ضربهم في حلبجة بالسلاح الكيماويّ.

 والحال أنّ الحرّيّة التي وُلدت في العراق مع إطاحة صدّام في 2003 أصبحت تمنع العودة إلى الطرق السابقة. فالناس أيضاً نزلوا هناك إلى الشوارع، وباتوا يتمتعون بحقوقهم في إنشاء الأحزاب والروابط وفي تأسيس الصحف والمجلات، فضلاً عن تشكيل اللوائح وخوض الانتخابات، كائناً ما كان رأينا بـ"العمليّة السياسيّة" في العراق. صحيح أنّ التعبير عن الحرّيّة، بل عن الحرّيّات المتضاربة، يتخذ شكلاً طائفيّاً يصطبغ به الصراع السياسيّ العراقيّ، غير أنّ المؤكّد أنّ أيّة مركزيّة متشدّدة يرمز إليها المالكي، أو سواه باتت من الماضي.

 والراهن أنّ أيّ ميل يبديه المالكي لاستعادة تلك الصيغة القديمة سيكون ثمنه الكثير من العنف والألم. وإذا أخذنا في الاعتبار التكوين الطائفيّ والإثنيّ للمجتمع العراقيّ، وللسياسة العراقيّة بالتالي، أدركنا أنّ وحدة العراق نفسها قد تكون من أكلاف الميل الاستبداديّ المذكور.

 والشيء نفسه، وإن بدم وخراب أكثر بكثير، نلقاه اليوم في سوريّا. فهناك أيضاً سقط نظام الحزب الواحد وعائلة الأسد، وبات من سابع المستحيلات استرجاعهما. وحتى لو افترضنا الأسوأ، وهو أن ينجح نظام بشّار بما يلقاه من دعم إيرانيّ وروسيّ كثيف، في فرض قبضته العسكريّة والأمنيّة مجدّداً، فإنّ الحكم سيبقى مستحيلاً على المدى الأبعد.

 لقد تعلم السكّان السوريّون كيف يطلبون الحرّيّة، بغضّ النظر عن انقساماتهم في فهم هذه الحرّيّة المطلوبة، وعن فوضاهم في نيلها. وهذا الإنجاز لن يكون من السهل التعامل معه كما لو أنّه لم يكن. فهنا أيضاً، قد يتأدّى عن فرض الاستبداد إرهاب معمّم وربّما تصديع متسارع للنسيج الوطنيّ السوريّ. وللأسف، فإنّ حضور ظاهرات مقلقة كهذه بدأ يتعاظم.

 وقصارى القول إنّ "شرعيّة" الاستبداد قد سقطت، لا في سوريّا فحسب، بل أيضاً في بعض بلدان الحراك العربي التي يريد حكّامها الاستفادة من التغيير لتجديد الاستبداد وإعادة إنتاجه. وهذا ممّا أنجزه "الربيع العربيّ" طارحاً على ملايين العرب سؤالاً يتعلّق بمسؤوليّتها المباشرة عن حياتها ومصائرها.

فإذا جاءت الإجابات سيّئة ومتخلفة، وهذا ممكن، فإنّ العمليّة التي انطلقت يصعب أن تتوقف، على ما تدلّ حالة مصر خصوصاً.

 والشيء الوحيد الذي يمكن لواحدنا أن يرجوه هو ألا تكون التكلفة الدمويّة باهظة، بعد كلّ الكبت والمصادرة اللذين أحدثهما، ولا يزال يحدثهما، الاستبداد. فأن تغدو طرق الحكم السابقة مستحيلة فهذا نصف عزاء، أمّا الأمل فيتوقف على طرق التعامل مع المستقبل.