المسألة الليبرالية العربية الجديدة... د. السيد ولد أباه

المسألة الليبرالية العربية الجديدة...   د. السيد ولد أباه
المسألة الليبرالية العربية الجديدة... د. السيد ولد أباه

 المسألة الليبرالية العربية الجديدة... 

د. السيد ولد أباه


بينت أحداث القاهرة هذه الأيام أن مأزق التحول السياسي في مصر في طور التفاقم، على الرغم من انتخاب رئيس للجمهورية وصدور دستور للبلاد في استفتاء شعبي عام، أريد له أن يكون الخطوة الحاسمة في الخروج من اللحظة الانتخابية الضرورية.

 

 

 

 

ليست بلدان «الربيع العربي» الأخرى بأحسن وضعاً في العمق، على الرغم من السمات الخصوصية والمميزات الذاتية لكل ساحة من الساحات المعنية.

وفي ما وراء التحليل السياسي لمأزق «الربيع العربي»، يتعين الوقوف عند جانب محوري من أزمات الحالة الانتقالية الراهنة، هو ذلك المتعلق بمصاعب وإشكالات النظام السياسي البديل، الذي يتم حالياً التصادم الحاد حول مرجعياته وآلياته الإجرائية.

 

صحيح أن الاتفاق سائد إجمالا حول الموجهات والمنطلقات الدستورية الكبرى التي تتمحور في مجملها حول المدونتين الكبيرتين للمنظومة الديمقراطية وهما: مدونة حقوق الإنسان الفردية ومدونة سيادة الأمة بصفتها مصدر الشرعية وإطار المواطنة من حيث هي رابطة عضوية ومجال الإرادة المشتركة.

 

إلا أن العديد من الإشكالات الفرعية التصادمية توحي بأن هذا التوافق الصوري يخفي تمايزاً جوهرياً في الرؤى والمواقف إزاء فلسفة النظام السياسي ومقوماته المرجعية.

 

ومن بين هذه الإشكاليات على سبيل المثال ما يتعلق بمنزلة الدين في نظام الشرعية التي تتضاعف إلى شرعيتين متوازيتين: شرعية العقيدة الجماعية للأمة، وشرعية الأمة كمجموعة سياسية راشدة كاملة السيادة.

 

ومن هذه الإشكاليات أيضاً ترتيب الأولوية بين مكوني النظام الديمقراطي: حقوق الإنسان في كونيتها وطابعها الفردي الذي يخرج عن كل تحديد ومقتضيات السيادة الشعبية التي لا سقف معياري لها، وإن كان نظام تعبيرها هو الآلية الانتخابية الإجرائية التي تنجح في حسم الصراع السياسي مؤقتاً وأن كانت عاجزة في لحظات التأزم عن التعبير عن الهوية العمومية.

 

يشكل العالم العربي حالياً حقل اختبار وتقويم لمسار استنبات واستيعاب القيم والنظم الديمقراطية في سياق متأزم، لا يمكن فيه تأجيل الجدل النظري والآيديولوجي حول هذه الموضوعات المحورية التي لا تزال الشغل الشاغل في الفكر السياسي الحديث.

 

تتعين الإشارة هنا بالرجوع للفيلسوف الألماني الكبير « يورجن هابرماس» إلى أن النسق المؤسسي للديمقراطيات الحديثة يتشكل من عناصر ثلاثة هي: استقلالية المواطن عمومياً من حيث انتمائه للدولة، واستقلالية المواطن خصوصياً من حيث انتمائه للمجتمع، واستقلالية الدائرة العمومية، التي هي المجال الوسيط بين الدولة والمجتمع. ويرى «هابرماس» أن الديمقراطيات الليبرالية تتأزم وتختل عندما يضعف أوينهار التوازن الضروري بين هذه المكونات الثلاثة: الديمقراطية والمساواة أمام القانون والمجال السياسي العمومي. وقد برزت في الفكر الديمقراطي الحديث مدرستان كبيرتان قدمتا صياغتين متمايزتين لهذه المعادلة هما: المدرسة «الجمهورية»، التي أعطت الأولوية لمبدأ سيادة الشعب والمدرسة الليبرالية التي منحت الأولوية للحريات والحقوق الفردية للمواطن.

 

يرجع التقليد «الجمهوري» إلى الثورتين الفرنسية والأميركية، ويستمد زخمه من تراث النزعة الإنسانية الأوروبية في عصر النهضة، ويتمحور هذا التقليد حول هدف تجديد نمط الديمقراطية اليونانية القديمة،(حرية الأقدمين بلغة بنجامين كوستان) أي تعزيز المشاركة الشعبية في المجال العمومي بمراعاة خصوصيات المجتمعة الحديثة في فرديتها وتصورها للمساواة الأفقية. وهكذا تكون بنية النظام السياسي منتظمة حول غاية تمكين المواطنين من ممارسة استقلاليتهم بصفة جماعية مشتركة.

 

أما التقليد الليبرالي الذي صاغه فلسفياً «جون لوك» وتبناه مدونو الدستور الأميركي، فيتمحور حول الوضع القانوني للحريات الفردية بالحد من تدخل المؤسسة السياسية، بحيث تكون السلطة الإدارية مسخرة بالكامل لمصالح أفراد المجتمع. الغاية هنا هي تحقيق الفرد لذاته المستقلة بإزالة القيود المانعة أو الكابحة لحرياته. ولقد أدرك مفكرو الليبرالية المحدثين مخاطر التعارض بين التقليدين اللذين يعبران عن وجهي المسألة الديمقراطية، وإنْ كان ينتميان لأفقين دلاليين مختلفين وليس بالضرورة متلازمين. والإشكال الكبير المطروح هنا هو كيف يمكن تصور حقل وسيط بين فردية الحقوق وكلية المجموعة السياسية، هو الحق العمومي الذي يجب أن لا يختزل في التسيير البيروقراطي الإداري للدولة. ولقد حاول «هابرماس» تصور هذا الحقل الذي أطلق عليه «الميدان التواصلي»، ويعني به الجانب التداولي النقاشي من المسألة الديمقراطية، الذي يرجع جذوره لنقدية «كانط» وليبرالية «ميل» وتداولية «جون ديوي». المجال العمومي هنا يؤدي دورين أساسيين هما: احتضان الإشكالات المجتمعية المطروحة، وممارسة نمط من «التصفية الخطابية» للنقاش السياسي.

 

نخلص من هذا التحليل الذي رجعنا فيه لأطروحة «هابرماس» إلى التمييز داخل المنظومة الديمقراطية بين جوانب المشاركة السياسية والحريات الفردية والنقاش التداولي العمومي، متسائلين عن مواقعها ونمط ارتباطها في الديمقراطيات العربية الوليدة. ويمكن القول باقتضاب إن الصراع السياسي في البلدان العربية المعنية تركز حول محور المشاركة السياسية لأسباب بديهية تتعلق بتدشين«الثورات» الأخيرة لآفاق التناوب السلمي على السلطة التي كانت مغلقة في عصر الأنظمة الاستبدادية العسكرية المنهارة. وهكذا ساد انطباع كبير لدى النخب السياسية بأن الوصول للسلطة هو المدخل لإعادة تكييف وضبط المسألة السياسية برمتها، مما أفاد القوة الوحيدة المنظمة (التيار الإسلامي)، في حين تردد الليبراليون في الدفاع منذ البداية عن قيم التحرر الفردي ومدونة حقوق الإنسان مستشعرين الخطر بعد فوز خصومهم الآيديولوجيين.

 

بيد أن الثغرة الأخطر في مسار التحول الديمقراطي الراهن في العالم العربي هي ضمور وتقلص المجال العمومي ،مما يتجلى في ظواهر ثلاث مقلقة هي : هشاشة الحدود الفاصلة بين السلطات الدستورية وانهيار آخر معقل للتوازن المؤسسي (القضاء)، وتعثر النقاش العمومي الحر من جراء موجة التطرف والإرهاب الفكري المتصاعدة (المجموعات السلفية المتشددة )، وضعف وتمزق المجتمع المدني بصفته الإطار الوسيط الحاضن للمواطنة الفردية.

 

استمعت لأحد زعماء جماعة الإخوان المسلمين المصرية يعرف الديمقراطية بأنها الحكم الذي يختاره الشعب بغض النظر عن مضمون الاختيار. وما فات المتحدث هو أن مبدأ سيادة الشعب لا معنى له إلا ضمن منظور الإرادة الفردية الحرة الذي هو المبدأ الناظم للفكر الليبرالي.

جريدة الاتحاد