الإسلام السياسي وتطوراته في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق

الإسلام السياسي وتطوراته في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق
الإسلام السياسي وتطوراته في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق

الإسلام السياسي وتطوراته في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق

البحث عن طريق للتوافق بين الليبرالية والدين

 القاهرة - محمد الخولي

كانت هي المعين الحضاري الأصيل، والمصدر الإسلامي العريق الذي استمدت منه حضارتنا العربية الإسلامية أسباب تألقها وازدهارها وقدرتها على أن تدفع عجلة الاستنارة والمدنية أشواطاً بعيدة وطموحة إلى الأمام.

 

وفي مجالات شتى يستوي في ذلك تخصصات الكيمياء أو الفَلَك أو الفلسفة أو الهندسة والمعمار أو الرياضيات أو الألسنيات بقدر ما تستوي أيضاً آليات إحياء أو استيعاب التراث الكلاسيكي الذي سبقت إلى إبداعه حضارات اليونان والرومان والهند ومصر القديمة وغيرها وهو ما كان يتم عن طريق ترجمة مضامين ومفردات هذا التراث النفيس من لغاته الأصلية (في الأكاديمية الشهيرة التي أنشأها الخليفة المأمون واتخذ لها اسم "بيت الحكمة").

 

تأثير الشيوعية

 

وفضلاً عن البعد الروحي الإسلامي بالذات الذي يشكل محور الفكر والسلوك والتوجهات والحياة بشكل عام في أرجاء منطقة الوسط الآسيوي، فما برحت هذه المنطقة محوراً لاهتمام قوى ونظم عالمية عديدة من الشرق والغرب على السواء: آسيا الوسطى التي دخلت مطالع القرن العشرين.

 

وهي تحت النظام الجمهوري بل وأمعنت في هذا المضمار كي تصبح على نحو أو آخر من الجمهوريات التي كانت تدور في فلك الكيان السياسي والأيديولوجي الشيوعي الذي كان يحمل كما هو معروف اسم الاتحاد السوفييتي.

 

على أن هذه الأدلجة التي اتسمت بها جمهوريات آسيا الوسطى لم تكن لتنال من شخصيتها الصميمية الأصيلة بوصفها كيانات إسلامية بالدرجة الأولى، فضلاً عن تنوع المشارب والتوجهات والأصول الإثنية، ومن ثم الانتماءات الثقافية التي شكلت شخصية كل من تلك الجمهوريات، التي تكاد تتوزع إلى حيث تربطها وشائج متنوعة ما بين الوشائج الآزرية الإيرانية إلى الوشائج الأوزبكية التي تستمد جذورها أيضاً من ثقافة تركمانية على صعيد منطقة بحر قزوين الممتدة إلى البحر الأسود.

 

بعد 70 سنة

 

أياً كان الأمر، فالحاصل أننا بإزاء ساحة إقليم واسع النطاق من خارطة الكرة الأرضية.. قيضت لها تطورات الحوادث منذ السنوات الأخيرة من القرن العشرين أن تخلع عن كياناتها ذلك الرداء السوفيتي السابق الذي طالما ناءت بحمله عبر السنوات الغابرة التي أعقبت قيام ثورة أكتوبر عام 1917 إلى أن تحقق لها الاستقلال بعد سقوط وزوال الاتحاد السوفييتي وهو ما توازى بحكم قانون الأشياء مع ما تم بصورة أو بأخرى من استعادة الشخصية الإسلامية والأبعاد الوطنية القومية الأًصيلة في جمهوريات آسيا الوسطى، التي ما زال لها أهميتها دولاً وكيانات وثقافات وانتماءات.

 

وخاصة بحكم امتداد رقعتها البرية التي تبدأ من حدود الاتحاد الروسي، وتجتاز كما أسلفنا حدوداً متاخمة لكيانات متنوعة ما بين إيران وأفغانستان وباكستان من شبه القارة الهندية وقد لا تنتهي عند تخوم الكيان الصيني بكل ما ينتظره وكل ما يتطلع إليه من دور بالغ الأهمية إلى حد الجسامة في مستقبل الأيام.

 

المهم أن الساحة السياسية العالمية أصبحت في الفترة الأخيرة بإزاء حقيقة مستجدة ومحورية بكل المعاني، وهو ما قد يتلخص في العبارة الموجزة التالية: "الإسلام السياسي الجديد في آسيا الوسطى".

 

هذا هو بالضبط العنوان الرئيسي لدراسة نرى أن من المهم إجادة استيعابها وتحليل معطياتها من جانب الأطراف العربية، وخاصة أن الدراسة تمضي كي تستهل طروحاتها تحت العنوان الفرعي التالي: "من الراديكالية إلى صندوق الاقتراع ".

 

والدراسة منشورة في أحدث أعداد من مجلة "الشؤون العالمية (وورلد أفيرز) الصادرة عن واحدة من أهم الجامعات الأميركية وهي جامعة "براون" (عدد شتاء 2012-2013) والدراسة من إعداد البروفيسور "إيمانويل كاراغيانس" أستاذ سياسات ما بعد الحقبة السوفييتية كما يقول تخصصه الأكاديمي، كما أنه مؤلف كتاب له بدوره أهميته في هذا المقام، وقد أصدره في عام 2010 تحت عنوان "الإسلام السياسي في آسيا الوسطى".

 

انفتاح آسيا الوسطى

 

يسجل الأستاذ كاراغيانس حقيقة انفتاح آسيا الوسطى المسلمة على العالم الإسلامي، بل ويرصد ما يصفه بأنه تجربة الانتعاش أو الإحياء الانبعاث الإسلامي، الذي شهدته، وما زالت تشهده، هذه الأصقاع على نحو غير مسبوق. صحيح أن مراحل العزلة استطالت نحواً من 70 عاماً، حيث بدأت مع مغيب رئاسة فلاديمير إيليتش لينين وبدايات حقبة ستالين في عام 1922.

 

ولكن هذه المرحلة الانعزالية التي حملت فيها آسيا المنطقة وصف "السوفييتية" بل وحملوا شعوبها على رفع شعارات الشيوعية .. آذنت كما أسلفنا إلى نهايتها مع زوال الكيان السوفييتي ذاته في عام 1991.

 

بعدها بدأ ذلك العقد التسعيني يشهد توافد الأئمة والدعاة والمفكرين الإسلاميين، ومعه تدفقت كما تقول الدراسة التي نحن بصددها تيارات عارمة من الأفكار والأدبيات والمؤلفات الإسلامية، فيما شهدت آسيا الوسطى المسلمة تشييد العديد من المساجد والمعاهد الدينية التي شاركت في تمويلها أقطار مسلمة تذكر الدراسة منها كلاً من تركيا والسعودية وباكستان.

 

توطين الإسلام

 

ومع تجليات البعد الإسلامي على مستوى كيانات المنطقة، وهو ما كان بمثابة استرداد شعوبها لشخصيتها الأصلية، لم تتردد الشرائح الحاكمة على مستوى هذا الواقع المستجد في إعلان الانضمام إلى منظمة المؤتمر (التعاون) الإسلامي، بل عمدت كل من تركمانستان وأوزبكستان إلى اعتماد عَلَم رفعته ليحمل على صفحته صورة الهلال والنجوم رمزاً للإسلام.

 

بيد أن صاحب الدراسة لا تفوته ملاحظة أن هذه الأقطار الآسيوية عمدت كذلك إلى الجمع بين البعد الإسلامي والبعد القومي، أو على نحو ما يصفه من جانبه بأنه تأميم أو توطين الإسلام .. وهو يحاول تفسير هذا الجانب بإيراد ملاحظات أخرى، منها ما يشير مثلاً إلى التأكيد في بعض هذه الأقطار على الجانب الصوفي (تركمانستان مثالاً) أو تكريس سير السلف أو الأولياء الصالحين (قيرغيزستان مثالاً).

 

ورغم هذه الظاهرة من تباين الإجراءات والغايات إلا أن الظاهرة كما ترصدها الدراسة التي نحيل إليها وكما تحاول تفسيرها.. إنما تتمثل في النظر إلى البعد الإسلامي بوصفه مصدراً للشرعية التي تتطلع إليها النخب الحاكمة في نظم آسيا الوسطى.

 

محاربة التطرف

 

وبمناسبة هذه الشرائح من الصفوة الحاكمة في تلك الأصقاع، فالحاصل أنها حاولت مع السنوات الاستهلالية من هذا القرن الجديد، أن تنفذ ما يمكن وصفه بأنه عملية تكييف للبعد العقيدي الديني بحيث يساير الأبعاد المدنية في حياة تلك المجتمعات.

 

وهي محاولات تقصد إلى قطع الطريق على أي موجات تنحو صوب التطرف أو المغالاة أو فلنقل التنطع بمعنى الغلو في جانب الطقوس والمظاهر على حساب جوهر العقيدة الدينية المعبّر في صميمه عن السماحة والاستنارة فيما يركز على أهمية العمل والإنتاج والإبداع بقدر ما يؤكد أيضاً على جهود التنمية والتطوير والتعمير.

 

وفيما تهتم جموع المصلحين والمثقفين الوطنيين في آسيا الوسطى بالجانب الآخر حيث السماحة والتيسير وتكريس قيمة العمل، ترتفع في آفاق النشاط العام بتلك الأقطار دعوات وتعمل منظمات تحمل الشعار الإسلامي وفي مقدمتها كما يقول الدكتور إيمانويل كاراغيانس في دراسته حزب التحرير (الإسلامي) الذي يعزو المفكر المذكور تأسيسه إلى عام 1953 في المشرق العربي.

 

ويصفه بأنه يتبنى دعوة إلى استعادة الخلافة التي تكفل "توحيد المسلمين كافة ضمن دولة واحدة". فيما يضيف البروفيسور كاراغيانس موضحاً أن الجماعة المذكورة بدأت نشاطها في آسيا الوسطى منذ بواكير التسعينات إلى أواسطها وكانت السلطات التي تولت زمام الأمور على صعيد الواقع المستجد في المنطقة خلال تلك الفترة قد اتبعت أسلوب المواجهة الصارمة إلى درجة القمع أحياناً بحق الكثير من عناصر تلك الجماعة.

 

وعلى أساس تطرف الشعارات والدعوات التي كانت تتبنّاها. من هنا باتت ساحة العمل العام تتسع لوافدين جدد إلى معمعة السياسة في تلك الأقطار، وفي مقدمتها كل من أوزبكستان وتركمانستان بكل ما لهما من أهمية محورية في مجريات أمور هذا الوسط الآسيوي.

 

الإسلام المعتدل

 

لكن الجديد الذي ينبغي التنبه إليه من جانب القوى والمؤسسات المعنية في العالمين العربي والإسلامي، هو ما باتت تشهده في الآونة الأخيرة، وعلى نحو ما تذهب إليه الدراسة التي بين أيدينا، جمهوريات أخرى من وسط آسيا كانت تعد أقل أهمية أو كانت تنتمي إلى الصف الثاني .

 

 

كما قد نقول من حيث النفوذ والتأثير على مستوى إقليمها ومن هذه الجمهوريات ترد كل من قيرغيزستان وكازاخستان وطاجيكستان وتصفها الدراسة بأنها باتت تعد من دول الإسلام المعتدل، أو أنها تتبنى أجندة إسلامية معتدلة وهو ما أدى بهذه الأطراف إلى إعلان التزامها بالعملية الديمقراطية، وعلى أساس أن لا تناقض بين آليات الممارسة والتحول الديمقراطي في جوهرها السليم، وبين الانطلاق من جوهر الإسلام الحنيف عقيدة وشريعة بكل سماحته واحتفاله بكرامة الإنسان.

 

على هذا المستوى من الاعتدال تعمد الدراسة إلى ذِكْر قيادات بعينها يأتي في طليعتها اسم السيد باقر أولو الذي دخل ميدان السياسة في قيرغيزستان قادماً من سلك العمل القانوني «شغل في السابق موقع أمين المظالم» وما زالوا يذكرون له اهتمامه الواسع بالقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان.

 

فيما تذكر له الدراسة التي نحيل إليها أنه رفض في عام 2006 زيارة الولايات المتحدة احتجاجاً على استخدام جورج بوش الابن رئيسها حينذاك مصطلحاً مرفوضاً بكل المقاييس وفي ضوء جميع الاعتبارات والمصطلح هو "المسلمون الفاشست" أو "الفاشيون المسلمون".

 

كذلك يوصف القانوني المذكور أعلاه بأنه يدعو إلى قيام معارضة بنّاءة لحكومة بلاده وأنه يؤيد قيام ديمقراطية إسلامية على غرار الديمقراطية «المسيحية» في أوروبا، وبمعنى الدولة التي تأخذ على عاتقها رعاية مواطنيها، وفيما يتعلق بالوسائل والأساليب يوصف الرجل أيضاً بأنه يفهم جيداً قواعد اللعبة السياسية .

 

وأنه يتعين على السياسيين في هذه المرحلة أن يَمْثلوا أمام جماعة الناخبين وأن يتبّعوا أساليب مسالمة «بعيداً عن العنف أو الابتزاز أو الضغط أو الإجبار» في إدارة الحملات الانتخابية التي يتولون أمرها للفوز ديمقراطياً بثقة وتأييد هذه الجماهير.

 

كازاخستان

 

في جمهورية كازاخستان أيضاً أتاح الجو السياسي السائد، وهو يتمتع بقدر ملحوظ من التسامح والتوافق، نشوء وصعود شخصيات سياسية تدعو إلى الجمع في سماحة إيجابية بين البعد الروحي متمثلاً في أصالة الأبعاد الروحية من الشخصية الوطنية في ذلك البلد الآسيوي، وبين ضرورات التحول السياسي والتنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي وفقاً لأحدث مقتضيات القرن الواحد والعشرين.

 

هكذا تتناول الدراسة التي أشرنا إليها سيرة بيك بولات تلينجان الذي تصفه بأنه في طليعة رموز الإسلام السياسي الجديد في كازاخستان. ومن عجب أن هذه السيرة التي ترصد الدراسة بداياتها تشير إلى أن هذا القيادي الآسيوي المسلم بدأ حياته موسيقياً محترفاً ومشهوراً.

 

وعندما بلغ سن الثامنة والثلاثين قرر اقتحام عالم السياسة فكان أن انتُخب نائباً في مجلس نواب كازاخستان في عام 2004، ومن خلال هذا الموقع البرلماني واصل القيادي المذكور جهوده ودعواته إلى اتباع ممارسة راشدة تجمع بين عنصر الدين الحنيف وبين مقتضيات وأعراف الممارسات الديمقراطية.

 

طاجيكستان

 

من طاجيكستان يلمع أيضاً اسم قيادي في منتصف الأربعينات من عمره وهو محيي الدين كبيري الذي استرعى اهتماماً خاصاً من جانب ريتشارد هوغلاند وكان سفيراً للولايات في ذلك البلد المسلم.. فكتب السفير الأميركي (في برقية سرية كشفت عنها عملية ويكيليكس الإلكترونية الشهيرة) .

 

وتصف سطور البرقية هذا القيادي من كازاخستان قائلة إن محيي الدين كبيري يبدو بحق في أهاب القيادي المعتدل الذي يتفهم السياسات الديمقراطية بأسلوبها المعتمَد في الغرب (ومن ثم) يتوجب على (دول) الغرب أن تدقق جيداً في التماس السبل الكفيلة بتدعيم السيد "كبيري" بوصفه من الجيل الجديد من القيادات الإسلامية المعتدلة".

 

والحق أن هذا الرأي لم يكن بالغريب، حيث أن كبيري لم ينخرط في سلك التعليم الديني المنظم، بل ظل يعبر عن آراء غربية المنحى. وعندما أعيد انتخابه نائباً في البرلمان في عام 2011 أوجز تصوراته وآراءه قائلاً: شعارنا هو: ثقة في الله (سبحانه) وولاء للوطن وخدمة لصالح الشعب..".

 

والحاصل أن هذا هو الشعار الذي اعتمده "حزب الأحياء في طاجيكستان" ويلاحظ في هذا الصدد أيضاً أن زعيم هذا الحزب وقياداته باتوا يؤكدون، كما تقول الدراسة التي رجعنا إليها في سطورنا الراهنة، على أن لم يعد مهماً الإصرار على الاقتصار الدائم على الجزء الأول الدين بكل ما له من أهمية ولكن مع التأكيد على الجزء الثاني (الوطن) والجزء الثالث (خدمة الشعب) باعتبار أن لهما أهمية جوهرية سواء بسواء.

 

المد الإسلامي في آسيا الوسطى

 

آسيا الوسطى منطقة جوار جغرافي وتعددات ثقافية ذات ارتباطات ووشائج متباينة تجمع بين شراكات حضارية وانتماءات وجذور اثنية بحكم متاخمتها وتفاعلاتها مع كيانات حضارية شتى، ما بين شبه القارة الهندية والكيان الصيني شرقاً، إلى الوجود الروسي ناحية الغرب،.

 

وبينهما كيانات إيرانية وتركية وغيرها. بيد أن البعد الإسلامي لمنطقة شرقي آسيا يربط بينها أيضاً برباط عقيدي وروحي متين وبين الشرق الأوسط والعالم العربي، فقد بدأت رحلات المسلمين العرب إلى بلدان اسيا الوسطى منذ فجر الدعوة الإسلامية.

 

وكان الهدف نشر الإسلام والتجارة في آن واحد، وكانت قوفل العرب تنطلق من شبه الجزيرة العربية محملة بالبضائع وبالعلم والعلماء، وكان لهذه الرحلات التي لم تنقطع لقرون طويلة تأثير كبير في نشر الإسلام الذي أصبح الديانة الرئيسية لسكان هذه المنطقة، ومنها انطلق الإسلام إلى الدول الكبيرة المجاورة مثل الصين وروسيا والهند، وأيضاً إلى دول شرق آسيا في أندونيسيا وماليزيا وغيرهما.

 

تعرض المد الإسلامي في هذه المنطقة لفترات انحسار وتراجع، كان أقواها مؤخراً عند ظهور المد الشيوعي في روسيا والصين في النصف الأول من القرن الماضي، هذا المد الذي كان يكن عداء واضحاً ومعلناً للأديان كلها بلا استثناء، لينال الإسلام والمسلمون منه نصيبهم. رغم أن المنطقة عاشت تحت الهيمنة السوفييتية نحواً من سبعين سنة، امتدت من أوائل عقد العشرينات من القرن الماضي (دولة لينين السوفييتية) واستطالت حتى أول عقد التسعينات وهو تاريخ زوال الاتحاد السوفييتي .

 

ومن ثم جاءت عودة جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية سابقاً إلى الأبعاد الوطنية والروحية من شخصيتها والاستعداد على مدار العشرين سنة الأخيرة لأداء دور له قيمته في السياسات الإقليمية والعالمية، خاصة وأن المنطقة شهدت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي صحوة دينية غير مسبوقة، انعكست صورتها بشكل واضح في انتشار المساجد والمدارس الدينية المختلفة.

 

وكثير منها لم يكن له وجود من قبل، ومع أوائل القرن الواحد والعشرين شهدت منطقة آسيا الوسطى قيادات تنتمي في معظمها إلى الأجيال الشابة التي باتت تطل على الشأن العام في بلادها الآسيوية من منظور إسلامي يرى أن طريق الإصلاح الحقيقي في تلك الأقطار هو ذلك الذي يعتمد على اتباع نهج إسلامي معتدل ومستنير ولا يتعارض بحال من الأحوال مع نهج التحول الديمقراطي ولا مع عمليات التنمية الوطنية التي تستهدف بالدرجة الأولى خدمة مصالح الجماهير.

 

من هنا أصبحت هذه الأجيال المستجدة في آسيا الوسطى من قيادات المسيرة الديمقراطية ترى عن يقين بأهمية الإفادة من الممارسة الديمقراطية على نحو ما سبق إليه الغرب وإن كانت تركز في هذا المضمار بالذات على تجربة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا.

 

يمكن لنا استعراض شريط رائع يحكي تطور وازدهار حضارة المسلمين وخاصة في مرحلة الذروة التي شهدها بالذات العصر العباسي الثاني عندما تسلم حاكم مثقف ومستنير هو عبدالله المأمون مقاليد الحكم في بغداد عاصمة الرشيد، ويزدان هذا الشريط بأسماء كوكبة من أعلام المفكرين والعلماء والفلاسفة في قامة البخاري أو ابن سينا أو الفارابي أو الخوارزمي أو البيروني، وجميعهم من سكان منطقة آسيا الوسطى.

 

ومَن سواهم على هذا المستوى الرفيع من العطاء الفكري والعمل الروحي على السواء. وما عليك إلا أن تتأمل الأصول التي صدرت عنها هذه الصفوة المضيئة من الأعلام الكبار، فإذا بك تصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه وصف "المشترك الجغرافي المكاني الأعظم"، وهذا "المشترك" يحمل بدوره وصفاً واسماً محدداً هو: آسيا الوسطى