الخيار الفلسطيني في مواجهة: طموح إسرائيل القديم وانتكاسات العصر الجديد بقلم : فادي الحسيني

الخيار الفلسطيني في مواجهة:  طموح إسرائيل القديم وانتكاسات العصر الجديد بقلم : فادي الحسيني
الخيار الفلسطيني في مواجهة: طموح إسرائيل القديم وانتكاسات العصر الجديد بقلم : فادي الحسيني

الخيار الفلسطيني في مواجهة:  طموح إسرائيل القديم وانتكاسات العصر الجديد بقلم : فادي الحسيني

حين أعلن قيام دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، كان يعلم القائمون على هذا الإعلان، والمؤسسون لهذا الكيان، أن طريقهم سيكون محفوفاً بالمخاطر، وأنهم سيكونوا محاطين ببحر من الأعداء، قد يهيج وينقلب عليهم في أية لحظة فيضان أو طوفان. وفي مواجهة ذلك، وضع المخطط الإستراتيجي الإسرائيلي هذا الأمر في الحسبان، وسرعان ما صمم خطة مبنية على بناء شبكة من العلاقات تشكل حزاماً خارجياً يحيط بهذا البحر من العداء والكراهية  من كل مكان. تجسدت هذه الاستراتيجية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكانت ملامح هذا الحزام واضحة المعالم، ومحاوره غير خفية على كائن من كان. ففي الجنوب، إرتأت إسرائيل في أثيوبيا المكان الأمثل، والدولة الأقوى لتكون راعي القسم الجنوبي في حزام الأمان، أمّا شرقاً فمن يكون أفضل من دولة كانت تتقرب للغرب بكل قوة، وتحاول أن تسلخ عن عبائتها إي إرث إسلامي أو فارسي، فكانت من نصيب الشاه وحكّام إيران، في حين كانت تركية أتتاروك أفضل راعياً للمحور الشمالي من هذا الحزام. شمال البحر المتوسط كان مؤمناً بطبيعة الحال حيث نسجت إسرائيل علاقات مع الدول الأوروبية المتعاطفة مع اليهود الهاربين من مذابح النازيين في ذلك الزمان.

خطة محكمة أثارات مضاجع سكان هذا البحر من الأعداء- إن صح وصفهم بذلك.  دُرست الخطة بعناية، وكان ترمي إلى هدفين بالتوازي، حيث تظل الدول العربية تنظر بكثير من القلق تجاه ما قد يأتي من الشمال أو الجنوب أو الشرق، ويشتت تفكيرهم بعيداً عن الأرض العربية التي سُلبت بسرعة البرق، إلى حين أن تبدأ إسرائيل نفسها بترتيبات تفكيك مفاصل هذه المنظومة العدائية من خلال استقطاب أطراف منها، إما عن طريق التخويف من بطش حلفائها المرابطين في هذا الحزام أو إثارة المشاكل الداخلية أكانت طائفية أو عرقية، أو بالترغيب عن طريق الإستمالة من خلال أصدقائها في الغرب، إما بالاستثمارات  أو المساعدات  أو المشاريع الاقتصادية. علمت إسرائيل تمام العلم حقيقة رؤساء هذه المنطقة، فأغلبهم يرغب في البقاء في سلطانه، ومن سيعينه هو وأقليته على الصمود في وجه الأكثرية من سكان هذه المنطقة سوى قوى خارجية تقدم دعم غير محدود، وهي ذات القوى التي ترغب في أن ترى مندوبين أمينين لمصالحها التي تتقاطع تماماً مع مصلحتهم في البقاء، ويديرون ظهورهم لما يعيث به هذا الكيان الجديد في الأرض العربية المسلوبة فساداً.

ورغم أنها حققت نجاحاً جزئياً، إلا أن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن. ففي حين بدأت تحقق نجاحاً تلو آخر في تفكيك منظومة- بحر الأعداء- بدأت أحلافها في المحيط الخارجي تتهاوى. ففي الجنوب، إنشغلت أثيوبيا بجارتها الجديدة أرتيريا، واندلعت حرباً ضروس بينهما. وما أن انتهت منها، بدأت الصومال تشكل كابوساً مزعجاً لها، لم تفق منه بعد، فشكلت لها بؤرة ساخنة للصراع، وتصدير المسلحين إليها، بالتزامن مع تصاعد مخاوفها من عناصر القاعدة المنتشرة في الدول المحيطة. إنهار الركن الجنوبي من حزام الأمان الذي رسمته إسرائيل حول بحر الأعداء من العرب، ورغم زراعة عنصر جديد  في جمهورية جنوب السودان، ولكنها لا تبدو وحتى اللحظة ركناً فاعلاً في هذا الحزام.  شمالاً، وتحديداً في عام 2002، ومع وصول الإسلاميين إلى السلطة في تركيا، بدأ القلق يتسرب إلى صناع القرار في إسرائيل، ولكن بقي الجيش التركي ضمانتهم في هذه الدولة. ولكن سنة بعد سنة، بدأت إسرائيل تدرك أن الحزام الشمالي الحليف بدأ ينهار رويداً رويداً، وكان الهجوم الإسرائيلي على سفينة مافي مرمرة هي الشعرة التي قسمت ظهر البعير، فبدأت العلاقات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية في أسوأ مراحلها بين تركيا وإسرائيل.  أما إن اتجهنا نحو الطرف الشرقي من الحزام الفاصل، فكانت اللطمة الكبرى لإسرائيل بنجاح الثورة الإسلامية في إيران، وقطع العلاقات بين البلدين، بل وسُلمت منظمة التحرير الفلسطينية مقر سفارة إسرائيل السابقة كمقر لها. بدت الناحية الشرقية أكثر عداءاً وشراسة في تصريحاتها حيال إسرائيل، بل وبدأت إيران نفسها تبني سياجاً أو جداراً من الأحلاف حول إسرائيل، بذات الطريقة التي إبتدعتها إسرائيل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

لم تقف إنتكاسات إسرائيل عند هذا الحد، بل تعمقت جراح المخطط الإسرائيلي بأمر لم يكن يوماً في الحسبان. حدث ما لم يتوقعه مستشرقوا الغرب، ومحللي الشرق، وحتى العرّافات والمتنبئين لم يكونوا ليجرؤا أن يتوقعوا ما قد يحل بهذه البلدان. فانفجر البركان، ودكت ثورات العرب في عام 2011 حصون "الاعتدال" وفقاً لما كان يوصف به أحلاف الغرب، وبدت جميع الحسابات الإسرائيلية والغربية مرتبكة من هذا الأمر الذي لم يكونوا يوماً يتوقعوه. وبعد أن نجحت إسرائيل في تفكيك المنظومة المذكورة في بحر "الأعداء"، أضحى عليها أن تبدأ من الصفر، بعد أن تضح الرؤية. إنعكست حالة الإرتباك والتخوف الإسرائيلي في تصريحات المسؤولين، فتارة يؤكدون أن حزب النهضة في تونس يرغب في إرساء علاقات مع إسرائيل، وتارة أخرى يقولون أن حزب النور السلفي أعطى إسرائيل ضمانات بعدم المساس باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وهو ذات ما قيل عن لسان جماعة الإخوان المسلمين.  لم يقف الأمر عند هذا الحد، فازدادت الأمور سوءاً مع إسرائيل مع استمرار تدهور الأوضاع في جبتها الشمالية، وتحديداً في سوريا، ففي حين كانت هذه الجبهة الأهدأ منذ عقود من الزمان، لم يعد بإمكانها توقع ما هو آت إن إنهار النظام السوري يوم من الأيام.  ليس غريباً أن نرى بعض السياسيين الإسرائليين يداعبون تركيا بتصريحاتهم، وكأنهم يتغزلون فيها، ويبكون على أطلال علاقات الماضي، ولكن أيمكن أن يغير هذا شيئاً مما جنت عليه براقش!!!

في الداخل الإسرائيلي يبدو الأمر أكثر وضوحاً بين جبهتين إستطاعت الأولى أن تحشد دعماً وزخماً شعبياً بسبب التطورات في المحيط الخارجي، والخوف على بقاء واستمراية هذا الكيان، وفي الطرف الآخر ترى يسار ووسط متآكلاً، هشاً ويزداد هشاشة يوم بعد يوم، ولطالما افتعلت قوى الطرف داخل الكيان المشاكل ونظمت هجمات لتزيد من توتر الشعب الإسرائيلي، وجعل هذا التخوف دافعاً ووقوداً لتماسك جبهتها الداخلية وتوجيه بوصلة التأييد والانتخاب صوب يميناً شعاراته وتصريحاته النارية ملاذاً للخوف المتسرب إلى  قلوب الإسرائيليين.  هذا الوضع يضعف دور اليسار في قول كلمة العقل في مفاوضات أو توقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين أو حتى في تقديم اعتذار لدولة مثل تركيا، بدى خيار التقارب معها الأكثر عقلانية في ظل كل هذه التطورات.

في وسط كل هذا، وبالتزامن مع كل هذه التطورات، لم يبقى لخيار السلام مع الفلسطينيين سوى مكان واحد، وهو القبوع في أسفل سلم الأولويات الإسرائيلية، وخاصة أن الوضع في قطاع غزة المحاصر يكاد يكون مستقراً، وجامداً رغم كل المحاذير، أما في الضفة الغربية المحتلة فالوضع يكاد يكون مثالياً، فاستقرار أمني إنعكس إيجاباً على الاستقرار الاقتصادي في إسرائيل، مع تصاعد وتيرة الاستثمارات الخارجية وتطور كبير في القطاع السياحي. المفاوضات من أجل المفاوضات واستنزاف المزيد من الوقت في أحاديث لا علاقة لها بالواقع، هي أمور طبيعية تقوم بها إسرائيل لمواجهة المطالبات الغربية بتهدئة هذه الجبهة إلى أن ينقشع ضباب هذه المرحلة من عمر المنطقة، وإستمرار التوسع الاستيطاني وتغيير المعالم والحقائق على الأرض، مع تكثيف عمليات تهويد مدينة القدس هي أيضاً أمور طبيعية وسط انشغال الجميع  بأحداث هامة وكبرى في هذه البقعة من الأرض.

يبقى على الجانب الفلسطيني تقييم هذه الظروف مجتمعة بصورتها الكاملة، ودراسة جدوى استمرار التفاوض أو حتى المراهنة على العودة لمفاوضات بدى الهدف الإسرائيلي منها واضحاً. ومن هنا، أصبح من المنطق البحث في خيارات أخرى عملّية تبني على إنجازات سابقة دون البدء من جديد في محاولات قد تكون جوانبها غير مدروسة بعناية. من الواضح أن حالة الضمور ووقف النمو في القضية الفلسطينية وصلت لمرحلة خطيرة، تنذر بأحداث جديدة، قد لا تصب في مصلحتنا، لذا وجب علينا صنع الأحداث، والبدء بسياسة الفعل ووضع حد لسياسة رد الفعل، ولتبدأ مرحلة جديدة من الكفاح الوطني الفلسطيني. 

الاجتهاد في التفكير هو أمر حميد، والاجتهاد من حيث انتهى الآخرين يقودنا إلى وجوب الاستمرار في الجهود الدبلوماسية بعيد اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، غير عضو مراقب، ومحاولة رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية مع كافة دول العالم بمن فيهم الدول التي صوتت مع قرار رفع مستوى تمثيل فلسطين، ومحاولة معالجة الوضع مع الدول التي امتنعت والتي صوتت ضد، وذلك بالتزامن مع التأكيد على إعلان الدولة في عام 1988 وإعلان حكومة وطنية لدولة فلسطين التي جمعت إعترافاً من أكثر من ثلثي دول العالم. قد يتساءل البعض هنا أتكون حكومة الدولة الفلسطينية في الداخل أم في المنفي؟ أستقبل إسرائيل بوجود حكومة دولة فلسطين رغم أنف التحذيرات المتكررة الإسرائيلية والأمريكية؟ وكيف للموظف الحكومي أن يعيش ويعيل عائلته إن قامت أمريكا وأوروبا بوقف المساعدات عن الفلسطينيين؟

 والإجابة تعيدنا لوضع الحكومة الحالية للسلطة الوطنية الفلسطينية، فهي تتعرض يومياً لمضايقات في المرور والحواجز والتصاريح والمصداقية في أعين المواطن البسيط حين يرى قوات الاحتلال تقتحم مدناً- تقع نظرياً تحت سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية. وحتى تحويل أموال الضرائب الخاصة بالسلطة، تقوم إسرائيل بين الفينة والأخرى بوقف تحويلها في ابتزاز سياسي واضح للمساومة على مواقف وطنية محددة، ويبقى الموظف والمواطن في حالة مستمرة من إنعدام اليقيم، متوتراً متشككاً إن كان سيقبض راتبه أم لا. ماذا إن تبنت السلطة الوطنية الفلسطينية قرارات جديدة لا تعجب صُنّاع القرار في تل أبيب؟ أنخضع أم نجوع؟  أهكذا تُبنى الأوطان، بالاستجداء والركوع؟ ونحن شعب أبيّ عزيز لم يقبل بالذل في أي عصر من العصور، وحارب بكل بسالة باسم الكرامة والمجد كل أشكال الخنوع؟

وحيث أن أموال الموازنة والمرتبات تُدفع في الأصل من الدول العربية- وغالباً ما تتخلف في الدفع- وليس من قبل أمريكا أو أوروبا، وإن إستطعنا تأمين الدعم السياسي والمالي الكافي من الدول العربية- والتي بدت خريطتها مختلفة عمّا سبق، يبدو أن خيار التمسك بإعلان الدولة، وتأسيس حكومة وطنية لدولة فلسطين، ولو حتى في المنفى أمر واقعي جداً. إن حدث الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية، وفي وجود حكومة فلسطين الشرعية، تضحي قواعد اللعبة مع إسرائيل مختلفة.

فرضت إسرائيل نفسها قبل ستين سنة على الجميع، عرباً وغرباً بلغة الأمر الواقع، وأثبتت سنة وراء سنة أن لغة الأمر الواقع هي لغة يفهمها الجميع، ويعقلها من يريد، صغير أو كبير، إن ابتعدت عن الشعارات والنظريات. وفي هذه الظروف، تأتي الفرصة سانحة لتكن لنا اليد العليا في القرار، وصنع الأحداث وإقرار ما نستحقه بفرضه واقعاً حقيقة، شاء من شاء وأبى من أبى.

فادي الحسيني

Twitter@ FElhusseini

http://blog.amin.org/fadielhusseini/