وتحول البالطو الذي حلمت به كفنا لوالدها العائد من النفق جثة هامدة / لـ نسرين موسى

غزة / مشرق نيوز

لا تجد طعام العشاء ولا النقود التي تذهب بها إلى مشوارها ذاك

تحبس دموعها بعينها لأنها لم ترتدِ ذاك البالطو المعلق أمامها في ذهابها وإيابها في ذاك المحل.

تريد شراء البوت الطويل برقبته كي تتحلى بمشيتها أمام زميلاتها اللواتي اشترينه.

سئمت من عباءتها الوحيدة التي لا تغيرها إلا إذا تسنت لها فرصة غياب شقيقتها الأخرى عن مدرستها لتلبس خاصتها.

كرهت ملوحة الجبنة المداومة على أكلها كل صباح لأن السوبر ماركت الذي يستدين منه والدها يسمح له بأخذها فقط.

كرهت كوب الشاي الذي يتحول إلى وجبة لها عندما يفقد بيتها الطعام الآخر.

سئمت من رؤية والدها قابع يئن بصمت لا تسمعه إلا هي

تودعه بعبرة محبوسة لا تزيل أثارها إلا بعد عودته سالماً من ذاك النفق المظلم

بماذا عاد لها ولأختها ولأمها؟؟

بوجه شاحب وألم ومرار ونقود لا يشترون بها إلا الجبنة المالحة.

لم يذهب للعمل بالنفق ليشتري سيارة ثمينة ولم يذهب ليشتري الذهب ولا ليشتري الاراضي

فقط ذهب ليشتري البديل عن ملوحة الجبنة وعن فتات الخبز المغمس بالشاي لتشعر ابنته بتغيير الطعم.

طلبت العمل واستُرزِقت بمرتب يقضى حوائجها هي وأختها ووالدها ووالدتها التي تعاني من ارتفاع الضغط كل حين

فرحت تهللت أساريرها بأول راتب

احتارت هل تشترى البالطو لها ؟؟

هل تجلب ذاك البوت الطويل ؟؟

أتشترى الجلابية المطرزة والشال لوالدتها؟؟

أتأتى لأختها بقاموس الانجليزي الذي تحتاجه ؟؟

أتشترى الشاورما لتكون غذاءاَ لها ولشقيقتها التي تحبها؟؟

ماذا تفعل براتبها ؟؟

هل تلقيه أمام والدها وتطلب له توديع نفقه المظلم؟؟

لم تشتر شيئاً لها وجاءت بكل ما طلبته أختها.

فرحت بفرحتها التي أشبعتها وعوضتها عن حلمها بارتداء البالطو الجميل

وتنفست نفساً عميقاً فرحة بمنظر والدتها الجميل وهى ترتدي الجلابية التي جاءتها بها.

اشترت طنجرة الكهرباء لوالدتها لتتخلص من مشكلة نفاذ الغاز الذي لا يتوفر ثمنه

لكنها لم تطلب من والدها ترك النفق

قالت له:" خذ ما تبق من راتبي ضعه على راتبك من نفقك المظلم نعتاش بقية شهرنا

فرِح بها لكن قلبها اعتصره الألم

لم تنم ليلها الطويل

هل سيعود والدي بنقود أخرى تقيتنا مع راتبي؟؟

ودعته في الصباح على رنين دقات قلبها المتسارعة والتي لم تقف حتى جاء المساء بخبر سقوط النفق على والدها ليأتونها به محملاً على الأكتاف وكيس نقوده فارغاً إلا من بقية راتبها.

دفُن ودُفِنت معه أحلامها بارتداء البالطو وبتكملة تعليمها الجامعي وشراء القاموس الناطق لأختها و شراء دواء الضغط المرتفع ثمنه لوالدتها

وعادت لملوحة الجبنة التي أصبحت ترى بياضها سواداً ولدموع أختها كلما رأتها تستصعب دروسها ولا تجد ثمن الدرس الخاص.

كرِهت البالطو و أصبحت تتخيله الكفن الذى إلتُف به والدها

ذهب ليس ليجلب الذهب

ليغير الخبز الممزوج بالملح لخبز مرشوش بالزعتر وقطرة زيت غائبة معالمها من قلتها

وبقى محله أصحاب الكروش يقهقهون كلما شبعوا من غذاءهم على دماء موتى قبورهم الأرضية بانتظار موتى آخرين!