انتصرت المقاومة وربح الوطن د. أحمد يوسف

انتصرت المقاومة وربح الوطن د. أحمد يوسف
انتصرت المقاومة وربح الوطن د. أحمد يوسف

انتصرت المقاومة وربح الوطن

د. أحمد يوسف

سألني أكثر من صحفي غربي التقيته صبيحة اليوم الأول لسريان التهدئة: لماذا كل هذه البهجة والاحتفالات التي تعم الشوارع من شمال القطاع إلى جنوبه، هل – فعلا - انتصرت غزة؟ قلت له: إن الشارع الفلسطيني بأفراحه يجيبك، والاحتجاجات في سيدروت واسدود ضد باراك ونتانياهو تؤكد لك صحة مشاعر الناس وأحاسيسهم في غزة، وقديماً قالوا: "إذا لم يُهزم الضعيف فهو رابح، وإذا لم ينتصر القوي فهو خاسر".

إن الذي تحدث عنه الإسرائيليون كدافع وراء هذا العدوان على قطاع غزة هو تحقيق هدفين: أولهما؛ كسر شوكة المقاومة بإذهاب هيبتها وتحطيم قدرتها، والثاني هو استعادة قوة الردع للجيش الإسرائيلي.. أما ما فهمه العامة والخاصة فهو أن هذه الحرب على قطاع غزة إنما هي من أجل تعزيز حظوظ نتانياهو وباراك في انتخابات الكنيست القادمة، والتي ستجري في يناير القادم.

وإذا نظرنا إلى خريطة الحسابات بعين فاحصة، وإلى المؤتمر الصحفي الذي عقده أركان الحكومة الإسرائيلية (نتانياهو- باراك – ليبرمان)، فإننا سنقرأ على وجوههم وفي نبرة كلامهم كل ما يوحي بالفشل والخيبة.

أما التهدئة - وبالشكل الذي أنجزناه عبر الوسيط المصري - فقد جاءت بكل ما طالبت به المقاومة، وكسبنا على الأرض وفي مياه البحر ما يسمح لنا بالقول إن جزءاً من الأرض كنا محرومين من الانتفاع به قد تحرر.

وفي سياق علاقاتنا العربية والإسلامية، فقد شعرنا بأننا قد نجحنا في استعادة عمقنا العربي والإسلامي، وانتفعنا من الجهود وإمكانيات التأثير والضغط لكل من مصر وتركيا وقطر، فالقضية بذلك قد ربحت مكانتها في أجندة أمتنا من جديد.

نقطة أخيرة، ربما قبل أيام من هذا العدوان كان الحديث يدور عن تراجع مكانة القضية الفلسطينية في المشهد الإقليمي والدولي.. وإذ باغتيال أحمد الجعبري – رحمه الله - تعود القضية لتأخذ صدارتها على قائمة الأحداث والتحركات العربية والدولية.

في الواقع، إن دم الشهيد أحمد الجعبري كان هو الشرارة التي أشعلت النار في هشيم المحتل، وأظهرت أن قلاعه هي أوهى من بيت العنكبوت.

السؤال الثاني الذي طرحه بعض الصحفيين الأجانب، هو: هل تعتقد بأن صمود الشعب والمقاومة يقف وراء سرعة استعادة حركة حماس لشعبيتها؟ وهل هذا سيؤدي إلى قطع الطريق أمام تحقيق المصالحة باعتبار أن حركة حماس هي - الآن - في موقع الطرف القوي أم أن ذلك سيعجل بإنجازها؟

أجبت: إننا اليوم نشعر أكثر من أي وقت مضى بانتمائنا لهذا الوطن الغالي فلسطين.. وبغض النظر عن تصاعد شعبية حماس، فإن هذا الكسب هو أولاً وآخراً للشعب والقضية؛ فإذا كانت حركة حماس والجهاد الإسلامي قد نالت نصيباً منه، فإن باقي فصائل العمل الوطني وعلى رأسها حركة فتح ستنال - هي الأخرى - من هذا الحب والاعجاب جانب.

إن الذي تابع منكم لغة الخطاب وتقديرات الموقف الذي عبرت عنه مختلف القيادات السياسية والشعبية يدرك أن "الكل الوطني" كان يتكلم لغة الوطن؛ بدون فذلكات أو تحريض، والتزام الموقف الذي يحمي ظهر المقاومة، ويعزز من وقفة وصمود الشارع الفلسطيني خلفها، وتجنب أسلوب المماحكات السياسية والمناكفة الحزبية.. لقد كان الجميع يطالب – بمسئولية عالية - بالمصالحة الوطنية، وينادي بتسريع إنهاء الانقسام، وأخص منهم الدكتور نبيل شعت والسيد عباس زكي والنائب أشرف جمعة والقيادي في حركة فتح سمير المشهراوي، وأخرون حيث طالبوا بالوقوف خلف المقاومة، وناشدوا كوادر حركة فتح بالاصطفاف إلى جانب إخوانهم من حركة حماس في مواجهة العدوان على قطاع غزة والتصدي له.

لقد استمعنا للكثير من التصريحات والتطمينات التي صدرت من كل من فتح وحماس بأن الخطوة القادمة بعد عودة الرئيس (أبو مازن) من مسعاه للحصول على دولة بصفة مراقب من الأمم المتحدة ستكون هي تحقيق المصالحة الفلسطينية، برعاية مصرية ومباركة عربية وإسلامية. من هنا، يمكننا القول بأن المصالحة قادمة؛ لأنها الاستحقاق الواجب لتضحيات شهدائنا وتعبير الوفاء لدماء جرحانا.

الصحافة الغربية شاهدٌ على العدوان

جلست في فندق الديرة لمدة ثلاث ساعات يتدافع نحوي الصحفيين من مختلف الجنسيات الغربية، يحاورني البعض بالكاميرا أو الميكروفون، والبعض الآخر يلاحقني بالأسئلة التي لا تنتهي.

باختصار؛ أسئلة كثيرة جرت على ألسنة أكثر من ثلاثين صحفياً من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، التقيتهم خلال فترة العدوان على قطاع غزة وفي اليوم الأول والثاني لسريان مفعول التهدئة.

كم كنت سعيداً بهذا العدد الكبير من الصحفيين الأجانب الذين وفدوا منذ اليوم الأول للعدوان لتغطية الأحداث، وكانوا برفقة صحفيين فلسطينيين، هم - بحق - جنودنا المجهولون، أدوا عملهم بتفانٍ وإخلاص وتضحيات عالية.

وبرغم الإرهاق الذي ألمَّ بي وأنا أتحدث وأتحاور معهم، إلا أنني شعرت بنشوة المنتصر وأنا اتحرك عائداً إلى رفح مع ساعات الليل الأولى، فالإعلام ساحة مفتوحة لطالمنا هَزمنا الأعداء منها. اليوم، وجدت نفسي فارساً في معركة يكفي الظهور فيها للانتصار.

الإعلام الفلسطيني: امتياز مع مرتبة الشرف الأولى

كان للتغطيات الميدانية التي تصدت لها - بحرفية وجسارة - فضائياتنا الفلسطينية؛ كالأقصى والقدس وفلسطين وهنا القدس وفلسطين اليوم، مع إسناد مميز لفضائيات الجزيرة والعربية والعالم والمنار.. لكل هؤلاء الذين حملوا كاميراتهم وانطلقوا – لحظة بلحظة - يوثقون الخبر، وينتزعون بعدساتهم وأرواحهم صورة الجريمة من تحت الأنقاض كل الشكر والثناء.

 لقد أدى الإعلام الفلسطيني واجبه على أكمل وجه، وهو يستحق منا أن نمنحه جائزة الإبداع والتميز، فقد كان سلاحنا الذي فتح لنا أبواباً نطل منها على العالم لفضح ما ارتكبه العدو الإسرائيلي بحق شعبنا من جرائم حرب (War Crimes) وجرائم بحق الإنسانية (Crimes against Humanity) والتي وراح ضحيتها أكثر من مائة وستين شهيداً، وقرابة الألف والثلاثمائة جريح.

لهؤلاء الصحفيين؛ الشهداء الأحياء ننحني إجلالاً واحتراماً، والدعاء بالرحمة لمن مضى منهم شهيداً والشفاء العاجل لجرحاهم، كما نطالب أهل الخير والسعة في الرزق أن يمدوا لهم يد العون والمساعدة في مجال عملهم، وأن نُمكن لمؤسساتهم بامتلاك كل ما تحتاج من الكاميرات وتكنولوجيا المعلومات، فهم - كما المرابطين على الثغور - عيونهم ساهرة تلاحق العدو وتفضح جرائمه.. فالكاميرا اليوم لا تقل عدساتها قيمةً عن الصاروخ والمدفع. 

لن أكرر ما نال فضائيات الأقصى والقدس من مديح، وما طال فرسانهم في الميدان من الثناء والدعاء، أو حتى "فلسطين اليوم" و"هنا القدس"؛ فهؤلاء جميعاً نالوا نصيبهم من الشكر والتقدير.. ولكن ما يوجب التنويه والشكر - أيضاً - هو ما قامت به فضائية "فلسطين"، والتي وقف إعلاميوها في قطاع غزة ورام الله يغطون بوطنية صادقة وبأمانة وشجاعة مجريات الأحداث وتوثيقها على مدار الساعة.

وفي زاوية أخرى من العمل الإعلامي يجب أن لا ننسى شبكات التواصل الاجتماعي (Social Media) وما منحته من نوافذ وفضاءات، سمحت لشبابنا الفلسطيني بالتغريد - من خلالها – وتحقيق التواصل الايجابي مع العالم الخارجي، وذلك بإيصال رسائلهم بالكلمة والصورة  - الصامتة والمتحركة - إلى زملائهم عبر البحار، ليخلقوا حراكاً احتجاجياً في الكثير من العواصم الغربية ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.. لفرسان الكلمة هؤلاء وأولئك الجنود المجهولون نتقدم بالشكر الجزيل والدعاء الخالص لهم بالتوفيق والسداد.  

انتصار بطعم الوحدة ونكهة التضامن

منذ اللحظات التي أعقبت اغتيال أحمد الجعبري – رحمه الله – كانت التوقعات أن ترد المقاومة بكل ما لديها من إمكانيات عسكرية متطورة، وفعلاً لم ينتظر أهل غزة طويلاً، حيث أثبتت المقاومة أنها قادرة على جعل هذا العدو المتغطرس ينزف دماً، ويتوجع بألم، وتتحرك ماكينته الدبلوماسية عربياً ودولياً طلباً للتهدئة.

ومع تطور المواجهة العسكرية، ورد حركات المقاومة بإطلاق صواريخ بعيدة المدى (فجر5، M75) نجحت في تجاوز منظومة "القبة الحديدة" والوصول إلى قلب تل أبيب والقدس الغربية وأسدود وبئر السبع، بدأت إسرائيل تهدد وتتوعد، وترسل رسائل عبر العديد من الوسطاء؛ إنهم لا يرغبون في التصعيد، ولكن إذا لم تتوقف المقاومة عن إطلاق الصواريخ، فإن خطواتها القادمة ستكون هي الاجتياح البري لإسقاط حكم حماس، وإعادة قطاع غزة إلى العصور الوسطى.

وصلت هذه الرسائل لحركة حماس، والتي شرعت - على الفور - في التشاور مع أشقائها العرب والمسلمين، وخاصة مصر وقطر وتركيا، ومنحهم صلاحية التفاوض باسم المقاومة، ولكن في إطار رؤية واضحة بأن التهدئة يجب ألا تكون فقط مقابل تهدئة، وليس بالشكل الذي كانت تتم عليه سابقاً، حيث اعتادت إسرائيل على خرقها، والتنصل من أية اشتراطات سبق لها التوقيع عليها.

لاشك أن ما تحقق يعتبر انتصاراً للمقاومة، ولصمود الشعب الفلسطيني، وللوقفة التضامنية لأهلنا في الضفة الغربية مع قطاع غزة، الذين أذهلوا العدو بتحركاتهم الاحتجاجية على العدوان، وفي توحيد صفوفهم خلف قياداتهم السياسية، التي منحت الضوء الأخضر للحراك الشعبي، ودفعت الجميع للقفز فوق ماضي الخلافات، والهتاف للمقاومة وفلسطين، والمطالبة بإنهاء الانقسام، وتجسيد المصالحة الوطنية في خطابات الساسة كما هي في حركة الشارع الذي أكد على أن الانقسام هو حالة وهمية، تعشعش فقط في عقل الاحتلال، وأن الدم الفلسطيني كان دائماً محركاً ليقظتنا وباعثاً لصحوة أمتنا.

إن المشهد التضامني لأهلنا في الضفة الغربية من حيث وحدة الإحساس بالهدف لدعم المقاومة، وتعزيز صمود أهل غزة، وإشغال العدو المحتل بفتح جبهات أخرى للمواجهة، جاءت مغايرة لحسابات السياسيين في إسرائيل، وأثبت الفلسطينيون أنهم جميعاً أحفاد لعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، حيث دم الشهادة يجري في عروقهم جميعاً، وأنه إذا جدّ الجد وقفوا وقفة رجل واحد، ممتشقين سلاح الدفاع عن الهوية والوطن والكرامة والدين.

لقد وقف الفتحاوي إلى جانب الحمساوي - بعزة وكبرياء - للدفاع عن الوطن، وكانت التعبيرات السياسية في الفضاء الإعلامي المتاح لكل منهم تعكس روح التآخي وتجسد روح الوطن الواحد، في سيمفونية ألحانها: دمنا دمكم، وشهيدنا شهيدكم، وانتصاركم انتصارٌ لنا.

كان الخطاب السياسي إلى جانب حركة الشارع في الضفة الغربية فلسطينياً بامتياز، فما تحدث به الرئيس (أبو مازن) وما أظهره من مواقف منددة بالعدوان كان يستحق التقدير، وما خرجت به قيادات فتح في دعمها المطلق لحق المقاومة في الرد، واعتزازها بما أنجزته في التصدي للغارات الإسرائيلية، وقطع الطريق أمام العدو في التفكير بحرب برية واسعة على قطاع غزة.. هذا الموقف يستحق أن نطرد به الشك، وأن نطوي معه صفحة الخلاف، وأن نضرب الذكر صفحاً عن هذيان كل من يحاول بعث الجاهلية فينا، وأن نتحرك في الاتجاه الصحيح لبناء شراكة سياسية، تعزز من قدراتنا على المضي قدماً باتجاه تحقيق أهداف شعبنا في التحرير والعودة.