حماس وقطاع غزة.. إلى أين؟بقلم آلاء السوسي

حماس وقطاع غزة.. إلى أين؟بقلم آلاء السوسي
حماس وقطاع غزة.. إلى أين؟بقلم آلاء السوسي

(المشرق نيوز)

بقلم: آلاء السوسي

منذ سيطرة حماس على قطاع غزة في 2007 دخل القطاع في حالة اشتباكٍ معقد مع حركة حماس، حتى أصبح أحدهما هو الآخر، ولا وجود لأيٍّ منهما دون وجود الآخر في الخارطة السياسية؛ فقد تحولت غزة إلى تكثيف رمزيّ معقَّد للصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني؛ حتى إن إسرائيل في سنواتها الأخيرة أصبحت توجه كل طاقاتها العسكرية لاستهداف بنية المقاومة المسلحة، مُخْتزِلَةً المقاومة في حركة حماس وغزة؛ فحماس هي غزة، وغزة هي حماس.

هكذا أصبح الفصل بين “حماس” كحركة (مسيطِرة) على القطاع إدرايًّا وعسكريًا، وبين القطاع بما فيه من سكان متنوِّعي الانتماءات يتشاركون فضاء حياةٍ مدنيةٍ واحدة، غيرَ ممكن، وكنتيجة واقعية، أصبح على كلٍ من الطرفين: حماس وأهالي القطاع أن يخلقا دائمًا الصيغة المشتركة للتعايش مع هذا الالتحام، الذي يزداد توسعًا مع الوقت.

هل تصوير هذا الالتحام كالتحام شبه حتميّ مُبَالَغٌ فيه؟

لا أتصور أنه سيكون من قبيل المبالغة ربط مصير القطاع بحركة حماس بشكل (شبه حتمي)، والعكس؛ وذلك لسببين: أحدهما يتعلق بحركة حماس، والآخر يتعلق ببنية المجتمع نفسه:

فيما يتعلق بحركة حماس، فإن غزة تمثل الرقعة الجغرافية الوحيدة التي استطاعت أن تمدَّ عليها سيطرتها الكاملة، وهي التمثيل الرمزيُّ لنجاحها فكريًا وأيديولوجيًا قبل أي شيء آخر؛ لذا فإن انهيار هذه السيطرة لن يؤدي إلى ما يمكن تسميته “الفشل السياسي”، إنه سيؤدي بالتأكيد إلي نهاية الفترة الذهبية لأيديولوجيا الحركة، وإلى الأبد ربما.

من ناحية أخرى، فإنه لا مجال لما قد يسمَّى (الخروج الآمن) لحماس من غزة؛ ذلك أن تجارب الحركات الإسلامية في البلدان المجاورة، تؤكد أن حالة الخروج من مشهد “السلطة” لا يعني العودة إلى مرحلة ما قبل “السلطة”، بل يعني الدخول في مرحلة جديدة من الاضطهاد، ستمارسه ضدها السلطات الجديدة.

وعليه؛ فإن حماس -في ظل الواقع الحالي- لن تتخلى عن سلطتها في إدارة القطاع: سياسيًا وعسكريًا، مهما كان الثمن، حتى لو امتدَّت الأزمات الاقتصادية والسياسية إلى أقصى حدٍّ ممكن، كما هو حاصل في الوقت الحالي؛ إن أي خروجٍ أو تقديم لمصالح المواطن -وفق رؤية موضوعية- سيكون بمثابة النهاية المفزعة لحركة حماس: فكريًا، وواقعيًا.

وعلى ضوء هذه الرؤية يمكن أن نفهم مواقف كلٍّ من حماس وفتح (المتشددة) بشأن المعابر والإعمار؛ إن حماس تفهم أن تنازلها عن سيادتها العسكرية في غزة قد يؤدي إلى انفراج الأزمة الاقتصادية الخانقة، لكنها تفهم -كما تفهم فتح أيضًا- أن هذه الانفراجة ستؤدي إلى نهاية الوجود الحمساوي -المؤثر- في تاريخ القضية الفلسطينية، وهذا ما تريده فتح بقوة، وما لن تخضع له حماس مطلقًا!

وعليه؛ ستستمر حماس في محاولة إدارة أزمات القطاع بما يتوفر لها من إمكانات سياسية، تستغل فيها موازين القوى الإقليمية المتأرجحة، وهي في مجملها سياسات براغماتية غير مبنية على أية تصورات بعيدة المدى، علاقتها بالسعودية كنموذج.

أماعن الكيفية التي استطاعت من خلالها حماس الاستمرار في السيطرة على خيارات الأفراد المدنيين في قطاع غزة، وجعل الأغلبية أغلبية مؤيدة، أو محايدة، فسيكون علينا الاتفاق -قبل كل شيء- على أن حماس ليست سلطة ديكتاتورية، وأنها لم تُقِم خلال فترة حكمها نموذجًا مصغَّرًا لدولة استبداد أو دولة شمولية تفرض من خلالها رؤاها الأيديولوجية، لقد عملت بشكلٍ “مبطَّن”، وبآليات أكثر ذكاءً على الهيمنة على “الوعي”، بحيث أصبحت السلطة التي تمتد في البنى التحتية للمجتمع، مكونة منها حاضنة شعبية لا يمكن الاستهانة بها.

كيف نجحت حماس في ذلك؟

1- حماس لم تكن بحاجة إلى خلق الأعداء!

تهدفُ أية سلطة استبدادية أو شمولية إلى تبرير وجودها من خلال خلق أعداء محتملين، سيجعلون الوضع أسوأ مما هو عليه الوضع الاستبدادي الذي يتسم بشيء من الهدوء -حتى لو في ظل خضوعٍ  للسلطة-، لكنَّ إسرائيل -وبطريقة غير مقصودة- عملت على تثبيت أقدام في الحكم، لقد كانت هي العدو.

لم تكن حماس بحاجة إلى خلق عدوها الذي يبرر وجودها، لقد كان موجودًا بالفعل، لكن ما عملت عليه بجد طوال سنوات حكمها هو محاولة إقناع الأفراد أنها هي (الندُّ) الوحيد لهذا العدو، وأن طريقتها في مواجهته هي الطريقة الأخلاقية الوحيدة؛ إذ إن أي طريق غير “المقاومة المسلحة” لن يكون سوى طريق لا أخلاقي، ولا جدوى منه.

لقد نجحت حماس في جعل هذه القناعة ترتقي إلى درجة التسليم، ليس عن طريق خطابات البروباغندا كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال، بل عن طريق إنجازاتها التي تمت على أرض الواقع من جهة، والمقارنة التي لا تنفك تعقدها بين منجزات المقاومة ومنجزات الفريق المفاوض في رام الله، وتكريس الوعي باتجاه المقاومة، ولا أخلاقية المفاوضات.

عبر الإنجازات العسكرية استطاعت حماس أن تحوِّل صورة العسكريّ إلى البطل الذي لا يمكن مقاومة جاذبيته في المخيال الشعبي، وقد عمل جهازها السياسي على استغلال صورة “العسكري/ المقدس” لمواجهة أي حالة من حالات التمرد المدني، فأصبحت كل محاولات الاحتجاج على الحياة الخانقة في غزة هي بصورة مباشرة احتجاجٌ (لا أخلاقي) على خيار المقاومة.

لم تكن إسرائيل هي العدو الوحيد، بل الفوضى (الفلتان الأمني: كتوصيف فلسطيني) هي الحل إذا ما حاول أحد المساس بالسيادة الحمساوية في قطاع غزة؛ إذ عقب أية تصعيدات بين حركة حماس وفتح، تتجه الذاكرة إلى مشهد الاقتتال الداخلي في يونيو 2007، وإمكانية تكراره بشكلٍ موسع في حال وقوع صراع داخلي جديد.

بديل حماس، وهو الفوضى/ الفلتان، لم يعد محصورًا بالنزاع مع حركة فتح، بل مع ظهور وجهات جديدة لهذه الفوضى: السلفية الجهادية، حركة الصابرين، هكذا يتعزز وجود حماس بمنظومتها الأمنية التي استطاعت حفظ الأمن بالقطاع بشكلٍ لافت.

2- التأسيس الأخلاقي للمعاناة:

بخطابات عاطفية ربطت حماس بين “المعاناة” و”الأخلاق الوطنية العليا”؛ فلا يمكن أن نكون أخلاقيين وطنيين ونحن نعيش حياة طبيعية، وبالنسبة إلى الرؤية الحمساوية: أي فرد فلسطيني تنحصر خياراته السياسية في خيارين اثنين، لا ثالث لهما: نموذج المفاوضات والخيانة الفتحاوية في رام الله، أو نموذج المعاناة الطهوري في غزة، واختر لنفسكَ ما تشاء!

إذن؛ لا بد من المعاناة، التي يتم التأسيس لها مشفوعة بخطاب ديني شعبوي، من أجل نيل شرف الوطنية، حتى وإن كانت هذه المعاناة بلا أيِّ ثمنٍ سياسي، حتى وإن كانت المعاناة تتحول إلى مسامير في نعش ثبات الجبهة الداخلية؛ فاحتمال المعاناة (كقدر نهائي) هو الخيار الذي يثبت الانتماء الأخلاقي للوطن، وما سوى ذلك تخاذل غير مبرر.

على سبيل المثال: فإن الحرب المدمرة الأخيرة لم تَقُد -واقعيًا- إلى أي ثمنٍ سياسي يمكن التباهي به، لكنَّ خطاب حماس يستمر في تمجيد الانتصار في هذه الحرب، وتوعد العدو الإسرائيلي بما هو أكثر، إنها خطابات لا بد منها في حالة حرب: هذا مفهوم، لكن من غير المفهوم أن يكون سلوك الحركة على أرض الواقع  مشابهًا لهذا الخطاب الجماهيري، من خلال استمرارها في تسخير مواردها المالية بأكملها من أجل الحفاظ على تطورها العسكري، في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع حالةً اقتصادية خانقة.

عسكرة المجتمع:

لقد أدارت حماس القطاع إدارة مؤسساتية بما يشبه أية حالة مدنية عادية، لكن ربما يرتقي إلى أفق المسلَّم به أنَّ حماس استمرت في حكم قطاع غزة إلى اليوم بفضل جهازها العسكري، أو أسطورتها العسكرية، هذا لا يعني أنها استخدمت هذه القوة موجهة إلى الداخل بشكلٍ مباشر، غير أن هذه القوة شكلت (غلافًا) سميكًا يحيط بالوعي المجتمعي بشكل لا إرادي، ويضبطه بطريقة غير مباشرة، إنها النسخة -الأكثر لطفًا وأخلاقية- من “لأخ الأكبر”.

ولكي تحافظ على هذا الحضور العسكري في الحياة اليومية فإنها اتجهت في طريقين متوازيين:

الأول: تمجيد صورة العسكري، بوصفه المخلِّص؛ وقد ساهم في ذلك مقدار السلطة الممنوحة للعسكري؛ حيث إن سلطة العسكري تفوق سلطة السياسي والإداري والقضائي، وإذا ما حدث تعارض بين أيٍّ من هذه الأجهزة والجهاز العسكري، فإن الكلمة تكون في النهاية لصالح العسكري لا سواه، وذلك بسبب الإدراك العميق أن الحالة الفلسطينية مضبوطة عسكريًا، لا سياسيًا ولا إدرايًا.

الثاني: هو المساهمة في إدخال مفهوم العسكرة في بنية المجتمع وفق رؤية منظمة، تقوم على استهداف النظام التعليمي، وذلك من خلال إقرار برنامج “الفتوة”، أو تنظيم المخيمات الصيفية التي يتواجد فيها مدربو كتائب القسام، ويدربون الشباب على استخدام مختلف الأسلحة، واعتبار المقاومة المسلحة طريقًا أوحد لحل القضية الفلسطينية.

هكذا تستطيع حماس توسيع رقعة حاضنتها الشعبية بضمان مندوب عسكري لها في كل بيتٍ في قطاع غزة، سيقدم رؤاها الجاهزة التي تضمن بقاءها مسيطرة على الوعي الجماهيري منحازًا لها، أو محايدًا في أسوأ الأحوال.

خلاصة

مهما يكن من أمر الجهود التي بذلتها حماس في سبيل تكريس سيطرتها على الواقع في قطاع غزة، بما يمثله لها قطاع غزة من أهمية (كحركة) بعيدًا عن المشروع الوطني، فإن الواقع الذي يستمرُّ في الانحدار إلى الأسوأ، مع استمرارها في التصلب على مواقفها، سيفتح الآفاق لجميع الاحتمالات، بما فيها الاحتمالات الأكثر تطرفًا، إن لم تتدارك حماس الموقف بعملية مراجعة سريعة لخطابها، وآليات عملها السياسي والوطني.