في الذكرى الـ 14 لوفاة أمير القدس فيصل الحسيني

في الذكرى الـ 14 لوفاة أمير القدس فيصل الحسيني
في الذكرى الـ 14 لوفاة أمير القدس فيصل الحسيني

في الذكرى (( 14 )) لوفاة أمير القدس

 قال يومًا: نعدكم صموداً ونعدكم نضالا ونعدكم... ولكن إذا ما بقيتم هكذا لا نعدكم نصراً!".

مرة أخرى نحاول أن نمارس فعل الاعتذار لمن رحلوا... إذ أن هذا الاعتذار نمارسه كجزء من ثقافة العويل والبكاء على أطلال من غادروا دون استئذان... فعذراً للفيصل على استعمال فعل الماضي بحضرة ذكرى رحيله وعذراً لأن فعل (كان) سيكون سيد الموقف، حينما يكون الحديث والكلام عن ذاك الزمن الذي شكل فيها الفيصل سيداً للقدس... حينما فرضت القدس ذاتها فرضا على الكل الوطني والإقليمي والدولي

 

كان يعلم نبضها ويعرف إحساسها الأتي من تفاعلات بشرها وحجرها، ويعلم لغة عشاقها ومجانينها، ويفهم زقزقة عصافيرها ويتمتم صلواتها بخشوع الحمام، كان الفيصل يعي متى يعبر أزقة وشوارع القدس ويعلم متى ترغب القدس أن تتوارى عنه غضبا فكان طائعا لرغبتها، يتحدث عنها وكأنه يتحدث عن عروسه الآتية من شرق الشرق لتسافر وإياه نحو غرب الجنون، كان يحلم بقدس خالية من حقدهم ومن خفافيش ليلهم، ولم يكتف بحلمه بل مارس شيئًا من وقائع الواقع، محاولا أن يصنع ممالك وجزر مقدسية لا تنطق إلا لغة رصينة كنعانية، ويمارس سكانها غناء وتواشيحًا مهللة لعبور مواكب الزائرين، كان يقول دوما نحن أبناؤها وسادتها وفقراؤها ونساؤها وأطفالها، إن أغضبتنا نسكنها أكثر ونعيش بثناياها أكثر، وإن أفرحتنا نزهو بأزقتها ونمارس شطحاتنا على أعتاب ساحاتها، كان يعلمنا كيف من الممكن أن يصير حبها ممكن وسط تعقيدات الحب ذاته، وكيف نصبر على متطلباتنا في ظل العيش في كنفها، وكيف نعبر كل الأنفاق المظلمة التي تزداد حلكة وسواداً في ظل مسيرة الألف ميل، كنا نتعلم كل يوم دروسًا منه بكيفية الإستزادة بعوامل صمود عشقها فينا رغم الكرب.

 

الفيصل لم يكن خارقًا بل إنسانًا عاديًا، ولم يكن فوقيًا يمارس فعل الأمر والأوامر، كان يعلم متى يتمظهر بفعل الإختراق ويمارس معانيه، بمعنى كان يعي ممارسة فعل اختراق الجدران العالية لفعل القدس، وكيف يُسمع صوت القدس وأهات القدس لمن لا يريد أن يسمع أو لمن كان يتجاهل السماع، فرض حقيقة القدس وفرض صوت القدس وحضور القدس على طاولة ما يسمى بالمفاوضات وبعقر بيت الغزاة مارس عشق القدس، وعند الأصدقاء عاتب نيابة عن القدس .. وابتدع كل الأساليب والأعاجيب بعشقها ومنحهم فرصة ليمارسوا قليلا من حبها، فقال ها هي أمامكم تنتظر فعلكم لا صلواتكم فقط، وتنتظر حرثكم وزرعكم، وحينها فالقدس ستمطر رذاذاً من السماء وستنبت زرعًا وقمحًا ذهبيًا وزيت الزيتون سيعرف غارس شجيراته حينما تشترون أزمانا في القدس.

 

عرف الفيصل معنى أن يكون مقدسيًا بامتياز فسكنها وسكنته، والسكن هنا له علاقه بفعل الدلالة والتعرف على شجونها وهمومها، وبواطن جمالها ومكامن أعدائها، وكيف يخططون لسلبها قدسيتها ورمزيتها، فراح يجوب كل أصقاع المعمورة محذراً من نهب القدس مناشداً كل مدائن العالم ويحكي لهم حكايا زواياهم في القدس، فلكل الشعوب حصة بالقدس ولكل المدائن زوايا ومكائن بالقدس، محذراً من تشويهها ومن تغيير معالم وجهها. عرف كيف يخاطب العجم بلغة يفهموها وعلم كيف يخاطب العرب بلغة كانوا قد نسوها، حكى كل الحكايات لهم وزمجر أيضًا بوجه أعدائها فعلا بليغًا على أرضها، فكان الشاهد والشهيد في الآن معًا.

 

اليوم ونحن في ظل ذكراه لا نملك من حقيقة أشيائنا إلا قول القول ذاته، ولا نملك من قدسنا إلا محاولة الإبقاء على قدسيتها إن كان ذلك ممكنا، وهنا نسترجع كلامه بهذا الشأن ونقول كما قال يومًا: نعدكم صموداً ونعدكم نضالا ونعدكم... ولكن إذا ما بقيتم هكذا لا نعدكم نصراً!".