مشاهدات ماليزية: حضارة السلام وبناء الإنسان، بقلم م. محمد يوسف حسنة.

مشاهدات ماليزية: حضارة السلام وبناء الإنسان، بقلم م. محمد يوسف حسنة.
مشاهدات ماليزية: حضارة السلام وبناء الإنسان، بقلم م. محمد يوسف حسنة.

مشاهدات ماليزية: حضارة السلام وبناء الإنسان، بقلم م. محمد يوسف حسنة.

كنتُ قد مكثتُ في ماليزيا ثلاث أشهر خلال العام الماضي واطلعت على الكثير من جوانب الحياة في ماليزيا واستمتعت وأنا أجوب البلاد طولها وعرضها مختلطاً بالبشر ومشاهداً الحجر ومعجب بروعة الطبيعة والشجر، كانت التجربة غنية ودسمة حاولت قدر الإمكان أن أنهل منها محاولاً تطبيق ما أتعلم في حياتي الشخصية والعملية، وقد أحجمت عن الكتابة عنها خوفاً من أن تعجز كلماتي إيفاء التجربة حقها أو أقصِّر دون قصد في وصف عظمة وحضارة بلد نهض من تحت الركام ليصبح في مصاف الدول المتقدمة اقتصادياً.

إلا أنني وخلال زيارتي الحالية لماليزيا قد قررت أن أكتب عن دولة تمكين الإنسان والتعايش بين الأديان وجمال العمران نقلاً للتجربة وتعميماً للفائدة، علّها تكون لنا نبراس دولة وضعت خطة نموها قبل 40 عاماً ومضت عليها فتقدمت وأبدعت وقدمت للعالم أنموذجاً رائعاً خلاب.

رسالة التعايش والسلام.

ثلاث أديان أساسية وثلاث أعراق مختلفة ناهيك عن مزيج من الديانات والأعراق الفرعية ذات النِسب المئوية البسيطة يتعايشون بسلام رغم بون الاختلاف الشاسع في العادات والتقاليد ويتقبل كل منهم الآخر، مزيج اجتماعي غريب معقَّد ومرَّكب وفريد من حيث التعدد العرقي والذي حدث بسبب المهاجرين الصينيين والهنود الذين عمل الاستعمار البريطاني لماليزيا على توطينهم فيها، بغية إيجاد صراع بينهم وبين السكان الأصليين للبلاد، إلاّ أن قادة التحرير كانوا من الحكمة بمكان إن ذاك حيث أنهم لم  يُضيعوا وقت البلاد في مغالطة حقائق الواقع على مراراتها برفضها، والعمل على استئصالها، أو التحايل عليها، ولم يتعاملوا بعقول صماء مقفلة بما يجب أن يكون، ولم يقفوا عند ذلك كثيراً، بل بادروا إلى استيعاب هذا التعدد العرقي ليكون مصدر قوة للبلاد فقبلوا به ونجحوا في خلق تحالف سياسي عابر للعرقيات من الأحزاب السياسية الغالبة والممثلة للتيارات الرئيسة فيها، ونجحت العقلية السياسية ذات البصيرة لقادة التحرير في تفويت الفرصة على الاستعمار البريطاني الذي كان يراهن في تمديد بقائه في ماليزيا على رفض قادة الملايو على تصفيته لا للتعايش معه . 

وقد شكل هذا التحالف العابر للعرقيات أكبر النجاحات الماليزية وهو الذي شكل النسيج المتين والأساس القوي للاستقرار السياسي في البلاد فقد أهدى صموده والحفاظ على معادلته ماليزيا استقراراً مشهوداً منذ استقلالها عام 1957م وظل هذا التحالف محتفظاً بالحكم طوال هذه السنوات استناداً على الاختيار الشعبي الحر. 

ومع ذلك لم تمض الأمور على نحو مثالي وبدون تحديات فالنظام السياسي الماليزي على شموله في استيعاب الواقع التعددي العرقي للبلاد لم يُلغِ الحساسيات والتوترات العرقية ولكن نجح في تهذيب مطامحها المشروعة وطرق التعبير عنها، وأوجد حالة من التوازن وموازين القوى التي جعلت الكل يتعايش بسلام وهدوء.

 

رسالة بناء الإنسان

كان من أعظم أسباب نجاح ماليزيا بعد التعايش السلمي بين الأديان والأعراق المختلفة التركيز على بناء البشر قبل الحجر وقد وضع قائد نهوض النمر الأسيوي مهاتير محمد خطة طَموحة تستهدف بناء الإنسان، ونصّت فلسفة التعليم بماليزيا على «إعداد المواطنين بصورة أكثر ديناميكية وإنتاجية لمواجهة تحديات القرن القادم في عملية التنمية الوطنية نـحو تحقيق وضع صناعي جديد، وإعداد الأفراد إعدادًا عقليًا وروحيًا وجسميًا وعاطفيًا قائماًعلى الإيمان بالله وطاعته, وتزويدهم بالمعارف والمهارات والقدرات ليتحملوا المسئولية والقدرة على المساهمة في وحدة ورخاء الأسرة والمجتمع والوطن ككل, وتكوين نظام تعليمي على مستوى عالمي يفي بمتطلبات وتطلعات الشعب الماليزي ويحقق مبدأ تكافؤ الفرص من خلال إتاحة فرصة التعليم لجميع الماليزيين.

 كما نصت أهداف سياسة التعليم على توجيه التعليم الثانوي نـحو خدمة الأهداف القومية, والعناية بتأسيس معاهد تدريب المعلمين والتدريب الصناعي, والتوافق مع التطورات التقنية والمعلوماتية, وتوظيف التعليم الجامعي لخدمة الاقتصاد, والربط بين التعليم وأنشطة البحوث والانفتاح على النظم التعليمية المتطورة،  وبهذا أصبح التعليم جزءًا لا يتجزأ من السياسة التنموية التي تنتهجها الحكومة.

ولإحداث التطوير المنشود في العملية التعليمية تم إقرار العديد من الإجراءات الإصلاحية في ضوء السياسة التعليمية الماليزية ومنها: زيادة قدرة المؤسسات القائمة وإنشاء مؤسسات جديدة وإقامة مجتمع تكنولوجي كما قامت بإثراء وتنويع المنهاج التربوي واهتمت ببناء وتدريب المعلم وتزويده بالمهارات والمعارف وتحديث الأدوات كما اهتمت بجودة ونوعية التعليم.

وقد حظيت بشرف زيارة الجامعة الملاوية بماليزيا وهى تُعتبر من الجامعات الرائدة على مستوى العالم حيث كان ترتيبها عالمياً 207 في عام 2010، ثم قفزت في عام 2011 إلى 167 ووصلت في عام 2012 إلى 156 على مستوى العالم، وقد ضخّت الحكومة حديثاً مايقارب 250 مليون رنجيت ( مايقارب ثلاثة وثمانون مليون دولار) لدعم برنامج الأبحاث ذات التأثير الكبير High Impact Researches  ويتم من خلال البرنامج توفير عقد براتب سنوى للباحث إلى جانب كافة الأجهزة التي تلزمه لإجراء البحث والذي يفترض أن يتم تحكيمه عالمياً بغية الوصول للمرتبة 100 عالمياً بحلول عام 2015.

 

ماليزيا الاقتصاد

أُعلن في نهاية مايو أيار من هذا العام نمو الاقتصاد الماليزي بنسبة 5% وفق الهدف المنشود ضمن الخطة التنموية الموضوعة رغم تباطؤ قطاع الصادرات، كما تم تصنيف ماليزيا بالمركز الخامس للاقتصاديات الأكثر تنافسية في آسيا، بعد سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان والصين، وحلّت في المركز 19 على مستوى العالم بناءً على التقرير السنوي لعام 2008 وهو يشمل 55 اقتصادًا.

وتشهد ماليزيا الآن تصاعداً في سلسلة القيمة وهي تركز حالياً على جذب صناعات التقنيات العالية والقيمة المضافة العالية المعتمدة على المعرفة ذات التركيز العالي على المهارات، عبر دمج الفعاليات مثل التصميم والتطوير والبحث والتنمية.

هذا التقدم المُبهر والمعجز في عالم الاقتصاد جعل نصيب الفرد الماليزي من صادرات ماليزيا 4800 دولار متجاوزاً بذلك نصيب الفرد الأمريكي في صادرات بلاده (3100 دولار ) بمبلغ 1700 دولار.

 

لقاء قائد النهضة الماليزية:

” لا، لست راضياً فقد كان هناك الكثير الذي ينبغي عليَّ عمله ولم أنجزه، وفشلت في أشياء كثيرة، ولكن لن أقول إنني لم آخذ فرصتي كاملة، وها قد حانت فرصة الآخرين”، بهذه الكلمات رد الدكتور مهاتير محمد على الصحافيين في آخر لقاء وهم يسألون عن تقييمه لفترة رئاسته لوزراء ماليزيا لعقدين ونَيِّفٍ من الزمان 

كان عظيماً حين استلم زمام الأمور والمبادرة في ماليزيا حيث تحولت ماليزيا في ظل قيادته المتمرسة من دولة ذات اقتصاد هامشي إلى قصة نجاح آسيوي تضاعف فيه مرات عديدة الإنتاج الاقتصادي وانخفضت فيه نسبة الأسر الماليزية التي كانت تعيش تحت خط الفقر من أكثر من 50% إلى أقل من 6% . 

وكان أكثر عظمة حين ترجل عن الحكم وهو في قمة نجاحه ليفسح المجال للآخرين بالتقدم خاتماً حديثه بأنه ليس راضٍ عن أداءه بشكل كامل وكأنه يرسل للقادة أصحاب الانتصارات الإعلامية الوهمية رسالة مفادها أن الميدان هو وحده الحكم وللتاريخ كلمة الفصل فلا تستعجلوا تسجيل انتصارات رقمية واهتموا بنوع وجودة الانتصار.

كان لقاء القائد محمد حلم شخصي يُراودني منذ أن اطلعت على تجربته وقرأت عنه، قابلته وقلبي يخفق باضطراب يفوق خفقان قلب عاشق ولهان شاهد محبوبته بعد غياب طويل.

كان دقيقاً محدداً واضحاً متواضعاً مبتسماً، نصح وقدّم ووعد على قدر استطاعته أن يساهم في خدمة المساعي الإنسانية في قطاع غزة كيف لا وقد كانت فلسطين حاضرة في وجدان كل ماليزيا وعززها في أذهان الماليزيين خلال فترة حكمه ومن خلال مؤسسته سواء عبر المعارض التي يُقيمها لأجل فلسطين أو تسيير قوافل متخصصة بحرية لصالح قطاع المياه في غزة.

تجربتي مع ماليزيا لن تُنسى وعشقي لها لن يُمحى وستبقى من أكثر الدول تأثيراً في نفسي، تجربة الحضارة ومواكبة التطور والجمع بين تقاليد الماليزيين وحضارة القرن الواحد والعشرين، خذوا عن ماليزيا كيف تقبلون الآخر وتتعايشون بسلام، خذوا عنها الاهتمام ببناء البشر قبل الحجر، خذوا عنها اهتمامها باقتصاد الفرد والدولة خذوا عن قادتها التواضع والصبر والحلم ونفاذ البصيرة وسياسة النفس الطويل.