النخبة الفلسطينية: صناعة الانقسام وأوهام الانتصار ( 3) د/ إبراهيم أبراش

النخبة الفلسطينية: صناعة الانقسام وأوهام الانتصار  ( 3)  د/ إبراهيم أبراش
النخبة الفلسطينية: صناعة الانقسام وأوهام الانتصار ( 3) د/ إبراهيم أبراش

النخبة الفلسطينية: صناعة الانقسام وأوهام الانتصار  ( 3)

د/ إبراهيم أبراش

 

المثقفون والأكاديميون من الريادية إلى التهميش

إن كان مفهوم النخبة بشكل عام يعد إشكالا بحد ذاته حيث يصعب حصر الأشخاص والفئات التي تنتمي للنخبة والاعتبارات التي تمنحهم صفة النخبوية ،فإن الحديث عن المثقفين كنخبة قائمة بذاتها يعتبر إشكالا أكبر.هذا إشكال ليس خاص بنا كفلسطينيين وعرب بل عام ،وقد كتب كثيرون حول نخبة المثقفين أو الانتلجنسيا وخصوصا من جهة علاقتها بالسلطة،وهل مطلوب من (نخبة المثقفين)  أن تنأى بنفسها عن السلطة وسياساتها وتحصر دورها في الجانب الفكري والتثقيفي والإبداعي النقدي أم عليها الاشتباك مع السلطة والسياسة سواء بالعمل داخل السلطة أو خارجها؟ وهل سيبقى المثقف مثقفا إن تولى منصبا سياسيا في الدولة ؟ .وفي ظني أن إشكال علاقة المثقف بالسلطة كعلاقة تعارضية صدامية دوما تم تفكيكه وتجاوزه نسبيا لشكل جديد من العلاقة يقوم على إمكانية الاشتباك مع السلطة والسياسة من داخل المؤسسات الرسمية وخصوصا مع بروز أهمية دور المثقفين والمجتمع المدني في الحراك الشعبي وضرورة مشاركتهم في التحولات الديمقراطية. إن استمر المثقفون يتلفعون بالطهرية السياسية رافضين أي مشاركة سياسية أو مؤسسية رسمية أو حزبية سيبقون على هامش الحياة السياسية وسيكون من السهل على السلطة والأحزاب السياسية محاصرتهم وتجاهلهم .

يدفع المثقفون الديمقراطيون والليبراليون والتقدميون الحقيقيون اليوم ثمن طهريتهم وطوباويتهم  ورفضهم الدخول في السلطة والاشتباك مع الشأن السياسي مباشرة من داخل السلطة حيث استغل أشباه المثقفين في التيارات الدينية العلاقة المتوترة بين المثقفين الديمقراطيين والليبراليين والسلطة ليقدموا أنفسهم كمثقفين جدد أكثر واقعية وبراغماتية حيث يفتون بالدين كما بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والفن،فيما هم جهلاء في كل هذه المجالات ،و يدخلون الحياة السياسية بقوة من بوابة الدين وبوابة السياسة معا لأنه في نظرهم لا فصل بين الدين والسياسة والدين قوَّام على السياسة ،ومن خلال الفتاوى والتفسير والتأويل وقاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) يكسرون كل المحرمات ويجدون تخريجات  لكل قضية .

وهكذا فيما تراجع حضور المفكرين والمثقفين الوطنيين والتقدميين في الحياة العامة وخصوصا في الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى ،سيطر أشباه المثقفين من التيارات الدينية على المشهد السياسي والثقافي ليس لقوة علمهم وثقافتهم بل لسطوة خطابهم الديني وممالأة الفضائيات لهم ولان هناك معادلة دولية تريد صعود الفكر الديني المرن المتصالح مع الديانات الأخرى وغير المتصادم مع الغرب ومصالحه . للأسف كان لتقصير المثقفين الحقيقيين وتراجعهم ضنا منهم أن الزمان ليس زمانهم ويجب الإنحاء لعاصفة مد الإسلام السياسي المتحالف مع الغرب ،دور في تراجع دورهم الريادي .

مع أن المشهد الثقافي الفلسطيني تأثر بالتغير الذي طرأ على الحالة الثقافية العربية المُشار إليها ،إلا أن خصوصية الحالة الفلسطينية وتحديدا أزمة النظام السياسي الفلسطيني وحالة الانقسام  وكون أزمة المثقفين الفلسطينيين سبقت هذه المتغيرات،كل ذلك جعل المشهد الثقافي الفلسطيني أكثر مأساوية. خلال السبعينيات والثمانينيات كانت توجد مأسسة لكل قطاع من قطاعات الثقافة حتى وإن كانت مأسسة لضمان الهيمنة،فكان للكتاب اتحادهم وللصحفيين اتحادهم وللفنانين التشكيليين اتحادهم وللحقوقيين اتحادهم الخ . وكان لهذه الاتحادات حضور عربي ودولي فاعل وكان المثقفون الفلسطينيون من رواد الفكر والثقافة عربيا ودوليا ،أيضا كانت هذه الاتحادات الشعبية ساحات للعمل الوطني ،وما كان يمنحها هذا الحضور الفاعل أنها بالرغم من التعددية السياسية فيها إلا أنها كانت تعمل في إطار صيغة من الوحدة الوطنية تعبر عنها منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع وموحد لكل الشعب .

أزمة الانتلجنسيا الفلسطينية أو  المثقفين سابقة في وجودها على ظهور الإسلام السياسي ومفاعيله السلبية على المشهد الثقافي الوطني،فقد بدأت الأزمة مع ظهور السلطة الفلسطينية التي أضعفت دور وفاعلية المثقفين من خلال:-

أولا : تهميش السلطة لمنظمة التحرير ومؤسساتها ومنها الاتحادات الشعبية،ونعتقد انه كان تهميشا مدروسا ومخططا هدفه تصفية إرث مرحلة التحرر الوطني ،نتيجة هذا التهميش أصبح المثقفون حالات انفرادية منعزلة لا يجمعها إطار ولا يعيرها أحد اهتماما.حتى مركز التخطيط الفلسطيني ومركز الأبحاث اللذان كانا فاعلين قبل السلطة ملتقى للمفكرين ومركزي إشعاع فكري،تحولا اليوم لمجرد مسميات لمؤسستين مهمشتين  ولا يوجد تفكير جاد بتفعيلهما.

ثانيا : ضعف الحوافز التي تشجع المثقفين على الفعل الإبداعي سواء تعلق الأمر بالجوائز التي تُقدم للمبدعين أو بتشجيع نشر الكتب أو بدعم مراكز بحوث ودراسات إستراتيجية تستوعب المفكرين المتميزين – لا يوجد في فلسطين مركز دراسات استراتيجي واحد محل ثقة – الخ ،الأمر الذي يدفع المثقفين والمبدعين للبحث عن مصادر تمويل أجنبية مشروطة.

ثالثا :أدى استقطاب مؤسسات السلطة للمثقفين وتحويلهم لموظفين براتب إلى قتل روح الإبداع لدى غالبيتهم .فأن تصبح حياة المثقف المبدع مرتبطة براتب سلطة سياسية مقيدة باتفاقات مع إسرائيل معناه أن يحسب حساب كل كلمة أو فعل يصدر منه حتى لا ينقطع عنه الراتب.

رابعا :مع وجود السلطة تزايدت مؤسسات المجتمع المدني الممولة من الخارج ،وهذه بدورها عملت على استقطاب المثقفين وخصوصا من قوى اليسار ،وصار حال هؤلاء كحال موظفي السلطة من حيث انشغالهم واهتمامهم بالراتب والامتيازات والعمل على ما يرضي الجهات الممولة التي في غالبيتها غير معنية بدعم أو تشجيع الثقافة الوطنية.

خامسا:توقف الدعم المادي والمعنوي للمثقفين الذي كانت تقدمه منظمة التحرير الفلسطينية و هزال ميزانية وزارة الثقافة ،وقد اطلعت من خلال عملي وزيرا للثقافة على التهميش المتعمد للأنشطة الثقافية ذات المضامين الوطنية.

مع تفاقم الخلاف والصراع على السلطة بين منظمة الحرير الفلسطينية وحركة حماس وصيرورته انقساما سياسيا وإيديولوجيا ثم جغرافيا ،جرت عملية استقطاب حادة للمثقفين والأكاديميين وساد التعصب الحزبي والأيديولوجي،والتعصب يُفقد المثقف روحه الوطنية الجامعة،فيوظف علمه وثقافته وإبداعه لخدمة الحزب والأيديولوجيا بدلا من توظيف الحزب والأيديولوجيا لصالح الثقافة الوطنية . وهكذا أصبحنا نسمع ونشاهد مثقفين من كل ألوان الإبداع الثقافي يؤججون نار الفتنة والانقسام .

إذا ما اعتبرنا الأكاديميين جزءا من المشهد الثقافي ،فإن الجامعات لم تنج من أمراض المثقفين ومن الانقسام السياسي.ففي فلسطين جامعات إسلامية وجامعات وطنية،وقد يقول قائل إنه يوجد في كثير من الدول العربية جامعات دينية أو إسلامية،وفي الغرب جامعات مسيحية أو متخصصة بدراسات الكتاب المقدس ،حتى إسرائيل بها جامعات دينية،هذا كلام صحيح ولكن كل هذه الجامعات تشتغل في إطار دولة ونظام سياسي وتخضع لأشراف الدولة وفلسفتها التعليمية،أما في فلسطين فالجامعة الإسلامية في غزة مثلا أسستها حركة حماس وتخضع كليا لها وليس للسلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير أي إشراف عليها سواء من حيث التوظيف أو مناهج التدريس .

 حول أكاديميون بعض الكليات والأقسام حتى داخل الجامعات المحسوبة على منظمة التحرير وحركة فتح إلى مرتع حزبي ضيق ،فبعض الكليات، من عميد ورؤساء أقسام وهيئة تدريس ،حكرا على المنتمين لحركة فتح ولا يُسمح بتولي هذه المناصب لغير الفتحاويين حتى وإن كانوا أكثر كفاءة .نفس الأمر نجدها في بعض برامج الماجستير التي تعمل وكأنها مؤسسة حزبية متخصصة بمنح شهادات دراسات عليا للفتحاويين وخصوصا ممن يتبوءوا مواقع قيادية أو تولوا مناصب سابقا  ،فالقبول فيها لا يقوم على أساس الكفاءة والجدارة بل على قاعدة الانتماء والولاء لرئيس القسم ولتياره السياسي،نفس الأمر بالنسبة لاختيار الأكاديميين العاملين في البرنامج وبالنسبة لمقاييس النجاح والرسوب.وإذ كنا نرفض وجود جامعات منغلقة للجماعات الدينية كالجامعة الإسلامية في غزة التابعة لحماس حيث العمل والتدريس فيها مقتصر على أبناء حماس ومن يواليهم، فإننا نرفض بنفس الحزم القول بأن جامعة الأزهر في غزة مثلا جامعة حركة فتح ،والغريب أن هؤلاء المتعصبين والمتحمسين لحركة فتح لا تظهر فتحاويتهم إلا فيما يسيء للجامعة وحرمتها وقوانينها.إن تسييس الجامعات يفقدها دورها الأكاديمي ويسيء إلى حرمتها .

الوجه الآخر من أوجه الخلل في الدور الثقافي والوطني للأكاديميين والجامعات ،يكمن في قلة حضور الثقافة والهوية الوطنية وكل ما يعزز الانتماء الوطني في مساقات التدريس.أيضا ندرة الأنشطة الثقافية والإبداعية والعلمية، كالندوات الفكرية والبحث العلمي الرصين من مؤتمرات وندوات وجوائز علمية ومجلات جامعية رصينة  الخ.بدلا من ذلك تنشغل الجامعات والأكاديميون بالصراعات السياسية والنقابية.ومن هنا لا نستغرب تسارع وتيرة هجرة الكفاءات الجامعية إلى الخارج حيث غالبية من يسافر للخارج من أساتذة الجامعات والأطر العليا - وخصوصا من قطاع غزة - في إطار برنامج علمي أو للبحث لا يعود للوطن، ومن لم يهاجر يطرق كل الأبواب للهجرة .مقابل ذلك نجد أكاديميين وطنيين جادين مخلصين لرسالتهم الأكاديمية العلمية كإخلاصهم لفلسطين،يبدعون في التدريس كما يبدعون في الإنتاج العلمي والحضور في المؤتمرات العلمية خارج الوطن فيشرفون جامعاتهم كما يشرفون فلسطين ،ويكسبون احترام الطلبة والشعب، حتى وإن لم توفهم جامعاتهم حقهم من التقدير والاحترام ،وتآمر عليهم العجزة والفاشلون من زملائهم.  

نخبة الصحافيين تعاني مما تعانيه نخبة المثقفين بشكل عام .لا شك أن الصحفيين الفلسطينيين لعبوا دورا وطنيا في كل محطات العمل الوطني وعرضوا حياتهم للخطر وقدموا عديد الشهداء،ولكن مقابل ذلك نسجل حالة الانقسام الحاد في قطاع الصحفيين ،وغياب الرسالة والهدف لدى غالبية المؤسسات الصحفية .إن أسوء ما في المشهد الصحافي هو حال ما يفترض أنها صحف وطنية. ففي كل دول العالم مجموعة من الصحف الرئيسة أو الصحف الوطنية أو القومية. هذه الصحف تعكس وتعبر عن التوجهات السياسية والثقافية الكبرى في البلد وتسلط الضوء على أهم القضايا والأحداث اليومية وتعتبر ملتقى للمفكرين والكتاب والمثقفين يعبرون من خلالها عن أرائهم بحرية ،ولذا يتابع الشعب ما تكتبه هذه الصحف  وخصوصا ما يكتبه رئيس التحرير أو ما يتضمنه العمود الرئيسي أو المقال الافتتاحي.

 في مناطق السلطة ثلاث صحف رئيسة:الأيام والحياة الجديدة والقدس،للأسف تراجع دور هذه الصحف في توجيه الرأي العام أو التعبير عن الحس الوطني ومتابعة القضايا والإشكالات الرئيسة للمواطنين،والمقال الافتتاحي أو العمود الرئيسي الذي يكنيه رئيس التحرير أو يعبر عن رأي الصحيفة بات آخر ما يقرأه القارئ وليس الأول،هذا إن تمت قراءته. وحال الصحف التي تصدر في غزة أكثر سوءا ،مثلا صحيفة الرسالة وصحيفة فلسطين لا تعبرا إلا عن وجهة نظر حماس ومغلقة كليا على الكُتاب من غير حماس ومؤيديها ،ولا تقبل أي نقد لحماس وحكومتها وبالتالي لا يقرأها إلا قلة من الحمساويين المتعصبين أو من الذين يبحثون عن وظائف في حكومة حماس.

ألقى الانقسام بكلله على الحالة الثقافية بشكل عام وعلى الكُتاب والمفكرين بشكل خاص حيث انشغلوا بالانقسام وتداعياته على الاهتمام بالصراع مع إسرائيل وبالهم الوطني العام،ولوا تتبعنا كتابات وإبداعات  هؤلاء  قبل عشر سنوات فقط لوجدنا غالبيتها تتحدث عن معاناة الشعب الفلسطيني ونضالاته وتاريخه ،وعن إسرائيل وممارساتها ،أما اليوم فغالبية الكتابات تتحدث عن الانقسام والهموم اليومية المترتبة عليه من الراتب والكهرباء والمعابر والاعتقالات الداخلية، فيما ندرت الكتابات الجادة والرصينة عن القضية الوطنية والصراع مع الاحتلال،وهو أمر يعزز تنشئة سياسية غير وطنية ستترك آثارها المدمرة على الجيل الحالي والقادم،وكل من يشتغل في مجال التدريس وخصوصا الجامعي يلمس نوع الثقافة السياسية السائدة عن الطلبة اليوم .

وهكذا ما بين مطرقة المتطلبات الحياتية وسندان الاستقطاب والتعصب الحزبي تفقد نخبة المثقفين ليس فقط دورها الطليعي بل حضورها وفعلها الوطني،وتتراجع معها الثقافة الوطنية الواحدة والموَحِدة .ومع ذلك فهناك قلة من المثقفين المخضرمين ما زالوا كما عهدناهم وطنيين مخلصين ومثقفين مبدعين لا يغريهم المال ولا ترهبهم السلطة ،بالإضافة لمثقفين وأكاديميين وصحفيين شبان مبدعين في مجالات عملهم،يشقون طريقهم بصعوبة،هؤلاء يحتاجون من يرعاهم ويسدد خطاهم بعيدا عن العوز المادي والتعصب الحزبي.

‏24‏/8‏/2012

Ibrahemibrach1@gmail.com

www.palnation.org