إن تعيين اسرائيل إلعاد غورين ضابط مسؤول عن صلاحيات الإدارة المدنية، أو ما يسمى بـ"المنسق" الخاص بغزة، مرتبط بدرجة أساسية باستكمال "إسرائيل" مجموعةً من الخطوات التي سبق أن اتخذتها أو فرضتها بوصفها ممراتٍ إجبارية في مجموعة من القضايا ذات البعد الإنساني في القطاع.
يهدف ذلك إلى تجاوز المنظومة السلطوية الحاكمة في قطاع غزة، وخلق مسارات أخرى تشمل التعاونَ المدنيَّ في القطاع مباشرة مع جيش الاحتلال إما عبر السكان مباشرة، وإما عبر المؤسسات خاصةً الدولية التي يبحث الاحتلال عن تحويلها إلى الأداة الأولية الوسيطة بينه من جهة والحاجات الإنسانية لسكان القطاع من جهة، وهو ما يتطلب وجود ضابط اتصال يتولى تسهيلَ هذه المهمة من جانب، ويُسقط عن الاحتلال الاتهاماتِ بالتورط المباشر في افتعال وتعظيم الأزمات الإنسانية في القطاع من جانب آخَر.
يصب هذا كلُّه في جوهره في محاولة الاحتلال المستمرة إيجاد صيغ للعمل مع السكان في قطاع غزة دون الاضطرار إلى المرور عبر المدخل الحكومي والمؤسسات الحكومية هناك، سواءٌ تلك التي تعمل مع السلطات الحكومية الحالية في القطاع والمحسوبة على حركة "حماس"، أو التي تعمل مع الحكومة في رام الله والمحسوبة على حركة "فتح"، إذ يبحث الاحتلال عن تخليق قيادة/قيادات محلية بديلة تدير شؤون السكان بالتعاون مع المنسق أو الضابط المكلَّف بإدارة الشؤون المدنية في قطاع غزة.
في كل الأحوال، لا يمكن التعامل مع هذه الخطوة بمعزل عن فكرة إطالة أمد الحرب وصولًا حتى إلى مأسسة متطلبات الاستمرار لأطول وقت ممكن للعدوان على قطاع غزة، وعكسِ تجليات هذا العدوان بفرض إعادة الاحتلال وتنظيم آليات التواصل والعمل مع سكان القطاع في جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولا يمكن قراءة مثل هذه الخطوة دون الأخذ في الحسبان سعي الاحتلال إلى إقامة تدابير دائمة لعودة السيطرة العسكرية والأمنية الاسرائيلية على القطاع وتحويلها إلى أمر واقع، ولربما سينقل هذا حتى بعض القضايا المختلَف عليها في المفاوضات إلى طور معالجات إسرائيلية منفردة عبر بوابة تعزيز دور الضابط المكلَّف بالشؤون الإنسانية في قطاع غزة، وفي مقدمة تلك القضايا ترتيبات المساعدات الإنسانية وعلاج المرضى وإدخال الدواء والمستلزمات الطبية وربما سفر بعض الحالات الطبية العاجلة، تمهيدًا لإجراءات أكثر تقدمًا، مثل إدارة انتقال السكان من مناطق العدوان إلى المناطق التي يصنفها الاحتلال "إنسانيةً" والعكس، وتحويل كل هذه العناوين إلى ممرات إجبارية لا تجري إلا عبر "المنسِّق" في إطار شرعنة الخطوة وإيجاد أرضية فعلية لها.
في العنوان التفاوضي، يهدف استحداث هذا المنصب، وغيره من الإجراءات الاسرائيلية، إلى إقناع المفاوض الفلسطيني بأن ما يجري التفاوضُ بشأنه لن يتعدى كونَه تفاوضًا حول صفقة مرتبطة بتبادل الأسرى وبعض العناوين الإنسانية التي سيدير ترتيبَها "المنسِّقُ" المكلَّف، دون اضطرار "إسرائيل" إلى التخلي عن أيٍّ من "الأصول الاستراتيجية"، وفق تعبير "بنيامين نتنياهو"، التي تشمل رفضَ الانسحاب الإسرائيلي من محورَي "فيلادلفيا" و"نيتساريم"، ما يعني ضمنيًّا رفضَ الانسحاب من قطاع غزة والتمسكَ بفرض السيطرة العسكرية والأمنية عليه.
على الصعيد الفصائلي، المطلوب أن تتجهز الفصائل لمواجهة مدنية إلى جانب المواجهة العسكرية مع مخططات الاحتلال، وهو ما يتطلب تحصينَ الحاضنة الجماهيرية وتعبئتها لرفض كل هذه الصيغ والأشكال، والامتناع عن التسليم بكونها ممراتٍ إجبارية لا يمكن التعامل إلا عبرها مع المعضلات الإنسانية.
وحتى تتمكن الفصائل من تقديم هذا الخطاب لأهالي قطاع غزة بشكل تستطيع عبره تصليبَ خيار التصدي والرفض في القطاع، يتطلب منها هذا أن تخوض في مسار جدي للوحدة الوطنية يُتَّفق فيه على خطوات التصدي للمخططات الإسرائيلية التي لا تَستَهدِف حركةَ "حماس" قصرًا أو قوى المقاومة وحدها، بل تَستَهدِف كلَّ تمثيل فلسطيني وطني.
يتطلب ذلك منها الارتقاءَ إلى حجم التحدي وبناء صيغة وطنية متوافق عليها للحكم وإدارة شؤون السكان الفلسطينيين، تشمل الصيغَ اللازمة لمواجهة محاولات الاحتلال تجاوز الصيغ الحكومية وتثبيت آليات عمل مباشر مع السكان.
يتطلب ذلك أيضًا خوضَ حملة ضغط على المؤسسات الدولية والمجتمع المدني لضمان جبهة رفض موحَّدة لا تسمح للاحتلال باختراق الوعي السكاني عبر مؤسسات وسيطة.
▪️ من جانب آخر، تحتاج الفصائل للتفكير خارج الصندوق بطرق إبداعية تضمن الوصول إلى صيغ فعالة، لتخفيفِ حجم وطأة الأزمة الإنسانية في قطاع غزة ودعمِ صمود السكان، بما لا يسمح بتحويل الحاجة الإنسانية إلى سيف مسلط على رقبتهم وبوابة للتنازلات.
في العنوان التفاوضي، تتطلب الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية استراتيجيةَ مواجهة سياسية وفي المحفل التفاوضي، بما يشمل رفض الانجرار إلى مربع الغرق في التفاصيل الفنية دون حسم العناوين الاستراتيجية، وفي مقدمتها ضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة.
وقد يحتِّم هذا على المقاومة التفكيرَ بإغلاق كل أبواب التفاوض حتى على صعيد الفرق الفنية إلى حين نجاح الوسطاء في انتزاع استعدادٍ إسرائيليٍّ جديٍّ للانسحاب الكامل من القطاع، والتخلي عن طموحات فرض السيطرة الأمنية والعسكرية على سكانه وأرضه.