تعمدت قوات الاحتلال الاسرائيلي اغتيال العلماء والمفكرين واساتذة الجامعات والطبقة النخبوية، خلال الحرب الضروس التي تخوضها منذ 9 شهور في قطاع غزة، ومن بين هؤلاء الشيخ يوسف جمعة سلامة وزير الاوقاف الاسبق وامام المسجد الاقصى وعضو الهيئة الاسلامية العليا ورئيس المعاهد الازهرية في فلسطين، بالإضافة للعديد من المناصب الاكاديمية والفكرية، لا سيما انه ابرز موقفه المؤيد للمقاومة لاسترجاع حقوقنا المغصوبة، فجاء اغتيال هذه الشخصية الإسلامية المعروفة لما لها من وزن رصين لها باع طويل في العمل الوطني والإسلامي والاغاثي ومن الشخصيات التي تركت بصمة في كافة المواقع التي عمل بها، وخير دليل على أنها كانت عملية اغتيال مباشرة له، ما كتبه الصحفي الإسرائيلي ايدي كوهين على منصة تويتر: تصفية يوسف سلامة المحرض على نصرة القدس والمقدسات.
وقد روت عائلة الشهيد سلامة بألم وحسرة اللحظات الاخيرة في حياة والدهم الذي استشهد مع والدتهم، اللذان قضيا بقصف طائرات الاحتلال بالصواريخ منزل العائلة في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، فكان نبأ استشهادهما جلل عظيم هزّ أركان البيت والمخيم والمحبين من داخل فلسطين وخارجها.
تقول ابنة الشهيد الدكتورة دعاء للقدس: في صباح يوم الأحد ٣١/١٢/٢٠٢٣ استيقظنا مبكراً إثر قصف قريب من بيتنا، وقد كان أخي الدكتور عمار يعتزم الذهاب إلى مستشفى شهداء الأقصى حيث مكان عمله، فطلب أبي منا إعداد الفطور لنتناوله جميعاً قبل ذهاب أخي إلى عمله، وجلسنا لنتناول الفطور، وما كانت البسمة تفارق وجهه الجميل، وما أن انتهينا فعزم على القيام لأداء صلاة الضحى، وذهب إلى الشق الثاني من البيت ليتوضأ ويؤدي الصلاة، وإذ بطائرات الاحتلال تستهدفه مباشرة وهو يتوضأ واستشهد على الفور، واستشهدت والدتي بعده بساعات نتيجة اصابتها البالغة.
لقد عايش ت عائلة الشيخ سلامة العديد من الحروب الإسرائيلية كباقي العائلات في قطاع غزة، ولكن هذه الحرب كل ما فيها مختلف تماماً، قوتها، تسارع أحداثها، خطورتها، حجم خسائرها المهول، فهي حرب أشرس من كل الحروب وأكثرها توحشاً، وأشدها فتكاً وتدميراً وإبادة، بشهادة الكثير من المحللين السياسيين والخبراء العسكريين، وشهادة الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني ممن عاصروا نكبة ١٩٤٨م، وما تبعها من ويلات وجولات قتالية.
وتابعت دعاء التي تعالج جراء اصابتها حاليا في قطر: لقد قضينا مع والدي ووالدتي الشهيدين قرابة الثلاثة أشهر من هذه الحرب المسعورة، حالنا فيها كحال السواد الأعظم من أبناء هذا الشعب العظيم، كانت أياماً صعبة، القصف مستمر ليل نهار بلا توقف، يستهدفون كل شيء، شدة القصف ودرجة العنف غير مسبوقين بالكامل، فالقذائف تأتي من كل مكان من الطائرات والدبابات والزوارق، ولكنه في ضل وجود الوالدين معنا واللذان يمثلان الأمن والأمان، والحضن الدافئ الذي نلجأ إليه، يخففان من حدة الخوف والتوتر القائم.
يقول ابن الشهيد ابراهيم للقدس: منذ اليوم الأول للحرب سعى والده الشهيد إلى توفير المواد الغذائية والحاجات الضرورية، كباقي الأسر الفلسطينية، تحسباً لأيام الحرب التي كانت لا تزال في بدايتها، كما حرص على توفير كل ما يلزم أمه الشهيدة من علاج، وتوفيره بكميات خوفا من انقطاعه، مشيرا الى انه كان مثالاً للزوج الصالح المحب لزوجته، وقد كان الشيخ الشهيد رافضاً لفكرة النزوح من البيت، أو السفر خارج البلاد رغم قدرته على ذلك، لكنه فضّل البقاء في البيت والصمود فيه، ثابتاً ومرابطاً في أرض المحشر والمنشر.
بر الشهيد بأمه
واضاف ابراهيم: حرص الشيخ الشهيد على الزيارة المستمرة لأمه، والبر بها في ضل الظروف الصعبة، من أجل كسب رضاها وسماع دعواتها الطيبة، وكانت زيارته الأخيرة لها في اليوم السابق لاستشهاده واصراره على الذهاب إليها في ذلك اليوم رغم صعوبة اليوم وشدة القصف فيه، وكان بيته مفتوحاً للجميع، يستقبل به الجيران والأحباب للتواصل معهم، والاطمئنان عليهم، وعرض صفوف المساعدة لمن أراد منهم، وعند نزوح أخواتي وأزواجهن إلى بيتنا، استقبلهم بحفاوة وتكريم.
كان الشيخ سلامة محباً لجميع أفراد العائلة كاملة من أبنائه وبناته، وأحفاده، يحدثهم بحديثه الشيّق وقصصه الهادفة التي لا يُملّ منها، ويحثهم على ضرورة الاستفادة من العبر والدروس من هذه الحرب الضروس والتي كان أهمها شكر الله وحمده على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، والتي لا يشعر بها الإنسان إلا حين فقدها وأهمها نعمة الأمن والأمان.
ماذا قال عن الاحداث؟
ويتابع ابراهيم قائلا: كان يحدثنا دائماً أن ما حدث ويحدث على مدار الشهور الأخيرة ما هو إلا مشهداً عظيما لا حدّ لوصفه، إذ يقول لنا رب العالمين المرة تلو المرة "أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة" فهي رسالة لا لبس فيها أن الدنيا وما فيها من أموال وزينة زائل لا محال، وأنّ دوام الحال من المحال، هذه سنة الله في الأرض، فلا شيء يدوم للأبد، لا القوة ولا الصحة ولا المال، فكل شيء هالك إلا وجهه العلي العظيم، ففي هذه الحرب كثير ممن يملكون المال والعقارات ومختلف التجارات قد خسروا كل ما يملكون وبدأوا يبحثون عن مأوى ليسكنوا فيه. واوضح ابراهيم قائلا: كان يبين لنا أن المال ليس كل شيء، وأنه لا يصنع السعادة، فالمال لا يستطيع شراء الصحة من مرض لا يُرجى شفاؤه، ولا أن يدفع عنك شر القدر إذا أراده الله لك، وقد اتضحت الصورة في أيام الحرب فكثيرٌ ممن يملكون المال لم يستطيعوا أن يفعلوا به شيء في ضل النقص الحاد للمواد الغذائية وانتشار المجاعة.
كان الشيخ الشهيد يحمل همَّ شعبه حتى في ضل تلك الظروف الصعبة حيث لم تكن تخلو جلسة من جلساته إلا ويدعو بتفريج الكرب ورفع الغمة عن هذا الشعب العظيم، وأن يربط الله على قلوب أهالي الشهداء، وأن يمنّ بالشفاء لكل الجرحى، وأن يفك قيد أسرانا البواسل، وقد كان دائم التفكير باقتراحات وحلول تجاه الدمار الذي أحدثه الاحتلال، ونظرته التفاؤلية في إعادة إعمار ما أسفر عنه هذه الهجمة الشرسة من دمار وخراب، فما رأيت رجلاً يفكر بشعبه مثله، ويسعى لمساعدته بكل ما بوسعه، فكان حقاً رجلا بأمة.
واضاف ابراهيم: كان الشيخ الشهيد شديد التأثر بالمشاهد الأليمة التي حلّت بقطاع غزة، وما كان يُبث على الشاشات من صور الدمار والخراب، وقد كانت مجزرة مستشفى المعمداني الحدث الأكثر تأثيراً على نفسه، وكان الشيخ يحثنا على الدوام بعدم رد أي سائل أو محتاج يطرق باب البيت، فالصدقة من أجل العبادات والقربات التي يحبها الله ورسوله، وما ينفقه العبد ابتغاء وجه الله هو الذي يجده أمامه يوم القيامة، فلا يبقى له من ماله إلّا ما تصدق به، فادّخر ثوابه لآخرته، وما سوى ذلك، فإنه ذاهب وتاركه لغيره، وقد تجلّى ذلك واضحاً في أيام الحرب فما كان يرد أيّ سائلاً أو محتاجا، وتزويد مَن قصده واستغاثه بالأغطية والفراش خصوصاً في أيام الشتاء الباردة، جابراً للخواطر.
حرصه على الصلاة في الحرب
كان الشيخ رحمه الله شديد الحرص على أداء الصلوات جماعة، لا سيما في أيام الحرب، وقد كان يقدم حفيده للإمامة لجمال صوته، وتشجيعه عليها، وكان دائماً يدعونا إلى المداومة على أذكار الصباح والمساء وأداء النوافل وقراءة القرآن، وتشجيعه وقراءته مع عائلته، والتضرع إلى الله بالدعاء أن يفرج همنا وأن يرفع الغمة عن شعبنا.
اخر حديث صحفي له
وكان الدكتور يوسف جمعة سلامة إمام المسجد الأقصى ، قد أكد في اخر حديث صحفي له لوكالة الرأي الكويتية أن عملية طوفان الأقصى نتيجة حتمية للاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني في كل مكان، سواء في القدس أو الضفة الغربية أو قطاع غزة، وبالأخص الاعتداءات على المسجد الأقصى»، مشيراً إلى أنه «سبق وحذر من عواقب تلك الجرائم الإسرائيلية، بعد رؤيتنا لآلاف المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى خلال ما يسمى بالأعياد.
وبين سلامة، الذي يشغل منصب النائب الأول لرئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس، أن العالم أجمع شاهد تلك الاقتحامات بقيادة كبار قادة الاحتلال، وما تخللها من تأدية طقوس تلمودية، ونفخ الأبواق ورفع الأعلام وإدخال القرابين النباتية، تمهيداً لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية الرامية للتقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى، بهدف إقامة ما يسمى بالهيكل المزعوم على أنقاض المسجد لا سمح الله.
وأشار سلامة إلى لتضييق على المصلين والمرابطين، لمنعهم من الوصول إليه، وإبعاد الشخصيات الدينية والوطنية عن المسجد الأقصى، لتجفيف الوجود الإسلامي فيه، فضلاً عن الحفريات التي تسببت في تقويض جنبات المسجد وزعزعة أركانه، وهدم بيوت المقدسيين ومصادرة بيوتهم وممتلكاتهم، ليس ببعيد.
وشدد على أن المشاهد المؤلمة التي نراها بحق الحرائر المرابطات، اللواتي يدافعن عن أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي، وتعرضهن للضرب والسحل، جزء من جرائم عديدة يتعرض لها الشعب الفلسطيني الذي هجر من أرضه، ومجزرة بشعة تتعرض لها القدس طالت البشر والشجر والحجر، لافتاً إلى أن قوات الاحتلال أطلقت العنان للمستوطنين لحرق البيوت والمزارع، ومنعت الأذان في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل.
وأكد أن ارتباط المسلمين بالأقصى والقدس ارتباط عقدي، وحتى رجال الدين المسيحي لم يسلموا من طغيان الاحتلال، فتم البصق عليهم والاعتداء على أماكنهم المقدسة والاساءة اليهم.
وبين أن الشعب الفلسطيني مستمر في التمسك بحقوقه ولن يتنازل عنها، والأقصى لا يقبل الشراكة أو التقسيم»، مشيداً بالصمود الفلسطيني والتصدي لمخططات الاحتلال، وذكر أن الشعب الفلسطيني يعتز بانتمائه العربي، وناشد العرب والمسلمين ألا يتركوا الفلسطينيين بمفردهم، لأن المقدسات ملك لأكثر من مليار مسلم.
انتهى
غزة-القدس / علاء المشهراوي