لم يكن يدري المواطن خضر رشاد ابوتوهة (٦٨ عاما) أنه وذريته من الأبناء والأحفاد ومنزله وتحويشة عمره وحصيلة جهده لأكثر من ٣٠ عاما كمهندس مساحة في بلدية غزة سيبيدها صاروخ من طائرة إف ١٦ للجيش الإسرائيلي في ثانية واحدة.
كان يوم الجمعة الموافق ١٣ اكتوبر تشرين الاول ٢٠٢٣ ثالث أيام الحرب على غزة يوما مأساويا وحزينا على أهالي حي المشاهرة بمنطقة التفاح شرقي غزة، وهم يشاهدون هول ابادة عائلة ابو توهة بأكملها والتي تضم ٣١ فردا، بينهم ١٩ طفلا و٦ نساء، عندنا دمر ذلك الصاروخ منزل العائلة الكبير المؤلف من خمسة طوابق، ولم يظهر منه سوى طابقين فيما دفنت الثلاثة طوابق الأخرى في باطن الأرض بشكل مرعب.
موعد مع الشهادة
في يوم الجمعة المشهود وفي حوالي الساعة الثامنة أسقطت طائرة الاحتلال صاروخها القاتل على أهل هذا البيت الكائن في شارع الشهيد احمد الجعبري، وهم يصلون صلاة العشاء، كان المشهد صعبا خلال عملية الإنقاذ، لانقطاع الكهرباء بعد أن استهدفت قوات الاحتلال محطة الكهرباء وطالت المولدات الثلاثة في القطاع، كان الظلام يلف المكان على وقع هدير المدافع وازيز الطائرات لا سيما طائرات الاستطلاع التي يطلق عليه اهالي قطاع غزة( الزنانة) حيث تناثرت الحجارة والأعمدة والاثاث ومحتويات المنزل في المكان، وبدى الأهالي الحي في حالة عجز وذهول لأنهم لا يملكون سوى ادوات بسيطة في محاولة إنقاذ ما بقي حيا من تحت هذا الركام وسط رائحة الموت والبارود والدم والدخان التي كانت تزكم الأنوف.
عملية إنقاذ معقدة
ومع عدم وصول اية اليات للانقاذ بعد أن استهدفت قوات الاحتلال طواقم ومقار الدفاع المدني ومنعتهم من العمل ولاحقت أية تحركات لهم، مما اضطر المتطوعين إلى استئجار جرافة شخصية للعمل تحت المخاطرة ووسط الليل المظلم وطائرات الاحتلال التي لا تفارق المكان الذي شهد أيضا استهداف منزلين قريبين لعائلتي جابر وابو الفول في ليلة مخيفة ومرعبة، الأمر لاذي عقد عملية الإنقاذ ٱنذاك وجود طوابق بأكملها في باطن الأرض.
أسرة خضر ابوتوهة
أودى الصاروخ القاتل بحياة الاب خضر ابوتوهة الذي اعتقلته قوات الاحتلال خلال تواجدها في قطاع غزة مرتين وضيقت عليه في عمله, إلى جانب زوجته الولى صبحية الهابط ٦٤ عاما، وزوجته الثانية زينب ابوحسان 5٦ عاما، حيث وجدوهم ساجدين لله في صلاة بعد انتهاء عملية الإنقاذ التي تواصلت على مدار أكثر من أربعة أيام العشاء، ليلحق كل من خضر وصبحية بابنهما رشاد البكر الذي استشهد برصاص الاحتلال عام 2000 في هبة الأقصى، ليكون أول شهيد في العائلة.
عائلة محمد
وفي هذا القصف الذي لن ينساه أهل المشاهرة والتفاح قاطبة استشهد محمد خضر ابوتوهة ٤٣ عاما الذي ابيد مع عائلته، الام ميرفت ٣٦ عاما والابناء، شهد ١٨ عاما الطالبة في كلية الطب، وأحمد ١٤ عاما، ومحمود ١٢ عاما، وسوار ٥ اعوام، واسيل عامان، ولم ينج من هذه المقتلة سوى ابنهم الأكبر خضر حيث نجحت عملية إنقاذه بتدخل إلهي وتقدير المولى حيث تم اخرجه من باطن الأرض وهم يستمعون إلى صراخه ومناشداته من بين الرمال والركام الذي غطاه ومن تحت الطوابق التي انهالت على رأسه، بعد تدخل لطف الله تعالى، ليخرج مع الاحياء في قصة مؤثرة.
عائلة مجاهد
ولمجاهد الابن الثاني في العائلة قصة حيكت حروفها من الألم والمعاناة والصبر، فمجاهد ٤١ عاما ذاك الشاب الوسيم فارع الطول صاحب اللون القمحي الذي كان يعمل مرافقا للشخصيات الخاصة بينها الوزير القطري محمد العمادي أصيب في ١٤ / ٥/ ٢٠١٨ الذي يصادف يوم النكبة برصاصة في رأسه، أشيع وقتها أنه استشهد، لكن كتب الله له الحياة، ليكمل مشواره بشلل رباعي على كرسي متحرك، استشهد مجاهد الجريح برفقة زوجته تحرير ٣٨ عاما وهي ابنة عمه ، مع خمسة من أبنائهم سجى ١٨ عاما الطالبة المتفوقة في كلية التجارة قسم إدارة الاعمال في الجامعة الإسلامية، وانس ١٦ عاما، ورشاد ١٥ عاما الذي حمل اسم شقيقه الأكبر الشهيد، ومحمد ١٢ عاما، ومريم الطفلة في الصف الأول الابتدائي.
عائلة عز الدين
كان الابن عز الدين ٣١ عاما على موعد مع والمجزرة جريمة الإبادة، حيث استشهد ابناؤه ليان ٨ سنوات، ومصعب ٧ سنوات، فيما نجحت زوجته رولا ايهاب ابوحسان ٢٣ عاما، مع طفلها محمد الرضيع البالغ من العمر سنة و٤ شهور، في قصة عودة إلى الحياة اقرب الى المعجزة.
وقال حسن خليل 42 عاما زوج أخته فداء ابو توهة للقدس: وجدنا الطفل وأمه بعد ٢٢ ساعة في مساحة صغيرة الحجم تحت الركام وبين اسياخ حديد البناء القاتلة والرمال، وكان طعام الطفل حليب أمه في هذا القبر المعتم المظلم في جوف الركام، وكتب الله لهذا الطفل الرضيع الحياة في هذا المكان المتوحش المخيف المظلم.
وقد ظهرت شقة عز الدين الوحيدة التي ظهرت فوق باطن الارض، انتثرت حاجيات العائلةه داخل غرفة تطل على الشارع العام، والتي كانت تحتوي على أدوات لرفع الأثقال وقفازات للملاكمة ومعلق بسقف الغرفة كيس جلدي خاص للتدريب إلى جانب الكرات والأدوات الرياضية.
ويقول حسن خليل، وهو يشير بحسرة إلى الشقة المدمره: كان عز الدين يحب الرياضة ويشجع اولاده واشقائه وشقيقاته لممارستها والحفاظ على أجسادهم قوية. كان عز الدين يحب الحياة، يكمل حسن حديثه، لكنه انتقل إلى حياة الخلود والبقاء عند الله، لا نملك الا قول لا حول ولا قوه الا بالله.
الشقيقات ميساء وإسراء وولاء
وكان من بين ضحايا هذا القصف القاتل الشقيقات الثلاثة اللواتي لحقن بأسرتهن، وهن الفتاة الشابة ميساء خصر ابوتوهة ٣٠ عاما المعلمة في المدارس الخاصة، والشقيقة الثانية ولاء ٣٤ عاما التي كانت في زيارة لأهلها برفقة زوجها ابن عمها همام مصطفى ابوتوهة ٣٨ عاما، لقد رحلت ولاء وزوجها همام برفقة اهلها، ولحق بهما أولادهم مصطفى ١٦ عاما، وريم ١٣ عاما، ولينا ٨ اعوام، ويوسف ٣ اعوام،
وفي غرفة مجاورة كانت الشقيقة الثالثة اسراء ٢٥ عاما التي كانت أيضا في بيت والديها تسلم الروح إلى ربها شهيدة تشكو ظلم المجرمين إلى جانب زوجها عبد الرحمن السلك ٣١ عاما الذي كتب له الحياة، لكنه تم تصفيته لاحقا برصاص جنود الاحتلال، وقد أفردت سابقا القدس مساحة لسرد قصته العجيبة، وكيف نجا من القصف والموت إلى التصفية والشهادة، والى جانب ولاء وعبد الرحمن استشهدت ابنتهما أمنية ٧ اعوام، وعبد الله ٣ اعوام، لتطوى صفحة هذه العائلة التي ستبقى دماؤها وصمة عار في جبين المتخاذلين الذين لم يسمعوا صوت استغاثتهم من أسفل ركام الموت.
الناجون من العائلة
وبعد أن ابيدت هذه العائلة في لحظة واحدة بفعل صاروخ قاتل يزن طنا، لم يتبق من هذه العائلة سوى الابن ميسرة المتواجد خارج القطاع عندما سافر قبل هذه الحرب المدمرة، والابنتان فداء المتواجدة في شمال القطاع، وسماح المتواجدة في جنوب قطاع غزة، التي حرمته قيود الاحتلال من لقاء الناجي من تحت الركام الطفل خضر محمد ابوتوهة، والرضيع محمد عز الدين ابوتوهة.
وفي حديثها الخاص للقدس، لم تقو فداء زوجة حسن خليل على الحديث والدموع تسابق حروف كلماتها وتتنهد من قلب موجوع: لقد ضاع كل شيء حرموني من والدي، ابي الحنون الذي كان دوما يزورني ويتفقدني بعطفه ويقدم لي المال وما احتاجه كون زوجي لا يعمل، لقد جاء رمضان وجاء العيد وسيأتي عيد اخر ولا أجد حولي أحدا من اهلي، سوى صوت اخي ميسرة عبر أثير الهاتف من الخارج.
وتتابع بحزن: لقد قتلوا كل شيء جميل عندي، انا يتيمة واي يتم، الاب والام والخالة والأخوة والأخوات وأبناء الاخ، حتى شقيقتي الناجية الوحيدة سماح لا أجدها إلى جانبي في هذا الوقت العصيب، أي ظلم هذا وسط عالم يدعي الحضارة والتمدن عالم ٱفاك يدعي الديمقراطية الكاذبة وحقوق الإنسان المخادعة، أنها ديمقراطية الأقوياء الوحوش.
وتتساءل فداء، كيف سأمضي حياتي وسط هذا المصاب الأليم؟ حتى البيت دمروه وقتلوا الذكريات الجميلة مع امي واخوتي، دمروا كل شيء من حولي، إن قلبي يتقطع ويتفتر دما على اهلي الذين أصبحوا في لحظات تحت التراب، لم يرحموا الكبير المسن ولا الأطفال الصغير والرضيع، ولا اخي مجاهد الجريح الذي لا يتحرك بالكرسي المتحرك وبيتنا الذي تحول الى ركام كلما مررت على اطلاله اتمزق الما، ولا أملك سوى قول، لا حول ولا قوه الا بالله، انا لله وانا اليه راجعون.
وقد اشاحت الشابة الثكلى بوجهها وهي تتحدث، وكأنها لا تداري دموعها المتساقطة على وجنتين حزينتين ويعتصرها قلب اصابه الاسى في مقتل لفارق ٣١ من عائلتها وقبلهم شقيقها رشاد، وكأنها تقول: لن ينالوا منا سأبقى متمسكة بحبل النجاة ادعو لوالدي واخوتي اترحم عليهم ومراعبة الطفلين الناجيين بعد أن حملوني هذه الامانة، وسأبقى شاهدة من اهلي على ظلم الظالمين وتخاذل المتخاذلين.
انتهى
غزة-القدس / علاء المشهراوي