أغيثوا القدس قبل فوات الأوان ..بقلم أحمد عبد الرحمن

أحمد عبد الرحمن
أحمد عبد الرحمن

بقلم - أحمد عبد الرحمن : هل المبادئ التي قامت عليها الوصاية الأردنية للمقدسات في القدس ما زالت قائمة؟ وهل الأردن قادر على وقف الاعتداءات المستمرة على تلك المقدسات، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك؟

بحسب بيان منشور في موقع وزارة الخارجية الأردنية، فإن الفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة بايعوا الشريف الحسين بن علي عام 1924 ليكون وصيّاً على مدينة القدس بما فيها من أماكن مقدسة. ومع تأسيس "الدولة الأردنية" الحديثة في 25 أيار/مايو 1946، بحسب الوزارة، تكرّس عهد جديد من تلك الوصاية في ظل حكم الملك عبد الله الأول بن الحسين الذي قُتل بعد ذلك التاريخ بنحو 5 سنوات على أبواب البلدة القديمة.

عام 1950، صدر إعلان مشترك بين الأردن وفلسطين عُرف في ذلك الوقت باسم "الوحدة بين الضّفتين"، حافظت من خلاله المملكة على وصايتها المُشار إليها آنفاً، والتي استمرت على حالها بعدما تم استثناؤها من ذلك القرار، رغم ما سُمي بفك الارتباط في العام 1988.

بعد توقيع اتفاقية "وادي عربة" بين الأردن والكيان الصهيوني في العام 1994، تم إدراج نص يشير بشكل واضح إلى بقاء المقدّسات الإسلامية في القدس المحتلة تحت الوصاية الهاشمية. هذا الأمر تم تأكيده من خلال الاتفاق الذي وُقّع بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والملك الأردني عبد الله الثاني بن الحسين عام 2013، والذي نص صراحة على أن ملك الأردن هو الوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس.

وتتمثّل الوصاية الأردنية على المقدسات في مدينة القدس بالاهتمام بها وحمايتها والحفاظ عليها والإِنفاق على مساجدها والتكفّل بإعمارها كلما استدعت الحاجة ذلك، إذ تُشرف وزارة الأوقاف الأردنية على نحو 100 مسجد، ويتبع لها أكثر من 800 موظف في المدينة المقدسة.

هذه الوصاية واجهت مشكلات عديدة في السنوات الماضية، في ظل ما ورد من تقارير عن محاولة دول إسلامية وازنة لسحب البساط من تحت الأقدام الأردنية، واستبدال الوصاية الهاشمية بوصاية أخرى، ما أدى إلى توتّر شديد في العلاقة بين الأردن ودول أخرى، مثل السعودية على سبيل المثال، التي كانت تسعى، بحسب التقارير نفسها، لبسط وصايتها على القدس، بما لها من مكانة تاريخية ودينية بين المسلمين، وهذا ما سيمنحها سيطرة كاملة على أهم بقعتين مقدّستين لدى المسلمين، هما مكة والمدينة في الحجاز، والمسجد الأقصى في فلسطين المحتلة.

اليوم، بعد نحو 77 عاماً من تلك الوصاية التي انبثقت منها دوائر عديدة تشرف على تنفيذ توجهاتها مثل: وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ودائرة قاضي القضاة، ولجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، واللجنة الملكية لشؤون القدس، والصندوق الأردني الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، وما تفرّع عنهم من لجان ومؤسسات وجمعيات، كيف يمكن تقييم الأوضاع في المدينة المحتلة؟ وهل المبادئ التي قامت عليها الوصاية مثل الحفاظ على المقدسات وحمايتها ما زالت قائمة؟ 

وهل الأردن قادر على وقف الاعتداءات المستمرة على تلك المقدسات، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك الذي يتعرّض لحملة ممنهجة من الاقتحامات وعمليات التهويد التي لا تكاد تتوقف والمحاولات التي باتت تُؤتي أكلها من أجل تقسيمه زمانياً ومكانياً، على غرار الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل؟

وهل لدى الأردن بالفعل ما يمكن أن يقدّمه في هذا الجانب، بعيداً من بيانات الشجب والاستنكار التي تلي كل اعتداء والمناشدات والتمنيات التي تعقب كل المضايقات والإغلاقات؟

في نظرة متأنّية إلى واقع مدينة القدس المحتلة، وبعيداً من موقفنا من النظام الأردني الحالي وعلاقته بالكيان الصهيوني، يمكن لنا أن نكتشف أن أوضاع مدينة القدس ومسجدها الأقصى تُشمت عدواً ولا تسرّ صديقاً.

الشواهد على ذلك أكبر من أن يتم إحصاؤها في مقال أو تقرير، وهي تجري على مرأى ومسمع من الجميع، خصوصاً في ظل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر كل شاردة وواردة، ولا تكاد تغفل عن كل صغيرة وكبيرة قد تقع في أحد شوارع القدس، أو على أحد أبواب مسجدها المبارك، أو في زواريب أسواقها العتيقة الشاهدة على حجم الخذلان والنسيان الذي تتعرض له.  

تاريخ طويل من الاعتداءات

بدأ مسلسل الاعتداء على المقدّسات الإسلامية في القدس الشريف باكراً جداً، عندما اقتحم الجنرال موردخاي جور وجنوده المسجد الأقصى في اليوم الثالث من حرب حزيران/يونيو 1967، وأحرقوا المصاحف، وصادروا مفاتيح المسجد، ورفعوا العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة المشرّفة، ومنعوا المصلين من أداء الصلاة.

بعدها بثمانية أيام فقط، أقام الحاخام الأكبر لـ"الجيش" الإسرائيلي شلومو غورن والعشرات من أتباعه أول صلاة دينية في ساحات الأقصى المبارك وباحاتها. بعد ذلك بنحو عامين، أقدم اليهودي المتطرف دنيس روهان على إضرام النار في محراب الأقصى، وحال تدخّل المواطنين الفلسطينيين دون امتداد النيران إلى كل أرجاء المسجد.

عام 1976، أصدرت المحكمة العليا في "إسرائيل" حكماً قضائياً يقضي بأنَّ لليهود الحقّ في الصلاة داخل المسجد الأقصى أسوة بالمسلمين، وهو ما شكّل لاحقاً أرضية قانونية لشرعنة اقتحامات المسجد وممارسة الشعائر الدينية اليهودية فيه.

مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأ مسلسل خطر لهدم المسجد الأقصى، سواء من خلال تقويض أساساته أو بواسطة عمليات تفجير ينفذها غلاة المتطرفين داخل منشآته. وقد تم الكشف في 28 آب/أغسطس 1981 عن نفق تحت الأرض يمتد من حائط البراق وصولاً إلى أسفل الحرم القدسي الشريف. 

وبحسب بعض المعماريين والمختصين، فإنَّ هذا النفق بدأ العمل فيه منذ أكثر من 7 سنوات من تاريخ اكتشافه، وهو ما يشير إلى رغبة إسرائيلية في هدم الأقصى منذ السنوات الأولى لاحتلال مدينة القدس.

بعد عام من اكتشاف النفق، وتحديداً في يوليو/تموز 1982، تم الكشف عن محاولة أحد أعضاء حركة "كاخ" المتطرّفة نسف مسجد قبّة الصخرة وتفجيرها، من خلال استخدام كمية كبيرة من المتفجرات. تبعت ذلك في كانون الثاني/يناير 1984 محاولة متطرفَيْن دخول المسجد وبحوزتهما قنابل يدوية كانا ينويان استخدامها للقيام بتفجير داخل المسجد.

استمرَّت محاولات الهدم خلال السنوات التي تلت ذلك، وشملت استخدام أساليب مختلفة إلى جانب الأنفاق والتفجيرات، إذ تم الكشف في آب/أغسطس 1997 عن وجود مخططات حكومية إسرائيلية لهدم القصور الأموية المحاذية للمسجد الأقصى لتوسيع حائط البراق الذي يستخدمه المتطرفون لأداء صلواتهم التلمودية.

بلغت الاعتداءات على المسجد الأقصى ذروتها في أيلول/سبتمبر 2000، عندما اقتحم رئيس حكومة الاحتلال آنذاك أرييل شارون باحات المسجد، في تحدٍّ غير مسبوق لمشاعر الفلسطينيين، إذ فجّر هذا الحدث "انتفاضة الأقصى" التي اعتبرت إحدى أكبر وأوسع انتفاضات الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال.

منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، ما زالت عمليات الاقتحام والاعتداء على المصلين وحفر الأنفاق وتركيب الكاميرات والبوابات شاهدة على وقاحة هذا الاحتلال المجرم، الذي لم يتوقف لحظة واحدة عن محاولاته لتهويد المسجد الأقصى ومدينة القدس من دون أن يجد من يردعه أو يقف في وجه مخططاته سوى الشباب الفلسطيني الرائع الذي يدافع عن مقدساته بروحه ودمه وأشلائه، إلى جانب أهل القدس الذين يرفضون تهويد مدينتهم، رغم ما يعانونه من صعوبات وما يتعرضون لهم من اعتداءات، ومعهم أبناء شعبهم الفلسطيني المناضل والمخلصون من أمتهم العربية والإسلامية وأحرار العالم.

أما على المستوى الرسمي العربي والإسلامي عموماً، والأردني خصوصاً، فالموقف مختلف تماماً، وينطبق عليه المثل القائل: "نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً"، إذ لم يغادر هذا الموقف في أحسن الأحوال مربّع الشجب والتنديد والاستنكار والمطالبة بتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في حماية المقدسات، مع ضرورة الإشارة إلى وجود استثناءات في هذا الإطار.

ما المطلوب عربياً وإسلامياً؟

بما أنَّ العدو الصهيوني يُصرّ على رفع نسق العدوان على مدينة القدس المحتلة ومسجدها الأقصى المبارك، ولا يكاد يتوقف عن ارتكاب كل الجرائم من قتل وترهيب ومصادرة وهدم، فإنّ الحاجة إلى مواقف أكثر جدّية وذات خطوات عملية، بعيداً عن الصراخ والعويل وبيانات الاستجداء، باتت أمراً لا غنى عنه.

ونحن نعتقد أنَّ أمة بهذا الكم الهائل من الإمكانيات، سواء البشرية أو المادية، لا يمكن أن تعجز عن القيام بهذا الأمر، ولا يمكن أن تبقى وصايتها على القدس مقتصرة على التغيير الدوري "للسجّاد" أو صيانة "صنابير المياه".

هذا الأمر، إن تم كما يطالب كل الغيورين من أبناء هذه الأمة، يمكن له أن يُحدث تحولاً هائلاً على صعيد تصرفات العدو، ويمكن له كذلك أن يشكّل رادعاً في وجه قوات الاحتلال، ويجعله يفكّر ألف مرة قبل القيام بأي خطوة. 

وبما أنَّ العدوان على القدس يتخذ أشكالاً متعددة، ويشمل مستويات سياسية واقتصادية وعسكرية، يصبح لزاماً على الأمة أن تقوم بخطوات فعّالة ومؤثرة على صعيد كل هذه المستويات، بما يساهم في إفشال مخططات العدو، وتثبيت دعائم صمود المقدسيين على أرضهم، لكونهم حائط الصد الأهم في هذه المواجهة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً.

على المستوى السياسي، من المطلوب تفعيل اللجان والمؤسسات المعنية بشئون القدس، وما أكثرها في عالمنا العربي والإسلامي! بحيث تكون قادرة على إنتاج مواقف موحدة ترتقي بالحد الأدنى للتحديات التي تواجه المدينة المقدسة، وعدم الاكتفاء بأداء أدوار وظيفية باهتة تهدف في الأساس إلى تلميع صورة الأنظمة التي تقف وراء تلك المؤسسات أو تقدم لها بعض الدعم.

والمطلوب كذلك وضع قضية القدس على رأس سلّم أولويات العمل السياسي العربي والإسلامي، واستغلال كل المنابر الدولية والهيئات الأممية والمحاكم الجنائية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة أو على أقل تقدير الحد منها والتخفيف من تأثيراتها.

اقتصادياً، يجب توفير الدعم الكامل، وبشكل ثابت ومستمر، لتعزيز صمود المقدسيين في أرضهم، وتقديم كل ما يلزم من دعم مالي للخروج من حالة الركود الاقتصادي الذي تعانيه المدينة، بسبب إجراءات الاحتلال المتواصلة التي حاول من خلالها فصل القدس عن محيطها الجغرافي، وخفض مستوى التعامل التجاري معها إلى حده الأدنى، وفرض الضرائب الباهظة على التجار، ورفع مستوى البطالة بين الشباب لإرغامهم على الهجرة ومغادرة أرضهم، أو في الحد الأدنى إشغالهم بالبحث عن لقمة عيشهم في ظلّ هذه الظروف القاهرة.

على المستوى العسكري، نعتقد أنَّ من الواجب تفعيل ما يمكن تسميته "حلف القدس"، الذي تشارك فيه كل الدول والجماعات المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، والراغبة في المساهمة في الدفاع عن مقدسات الأمة في القدس الشريف، والتي تتعرض منذ أكثر من 75 عاماً لحملة ممنهجة من التهويد والسرقة.

وفي اعتقادنا، فإنّ الإجماع الموجود لدى كلّ أطياف الأمة حول ضرورة التصدّي للهجمة الصهيونية على القدس ومقدساتها يجعل من الممكن إقامة مثل هذا الحلف، الذي قد لا تشارك كلّ الدول فيه بالضرورة، وخصوصاً تلك المرتهنة للموقف الأميركي أو التي وقعت اتفاقيات "سلام" مع العدو الصهيوني.

هذا الحلف يجب أن يرفع شعاراً ثابتاً قابلاً للتنفيذ عند الحاجة، ينصّ صراحة على أن أي عدوان على القدس وأهلها سيقابل برد فعل عسكري مباشر من كل أطرافه، وأن التغوّل الإسرائيلي ضد المواطنين العزّل ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع من خلال استخدام القوة المفرطة والوسائل العنيفة لا يمكن أن يمر مرور الكرام. 

لو حدث ذلك وتحمّل الجميع مسؤولياتهم بشكل كامل، بعيداً من المبررات والأعذار، وانتقلنا من لغة الشجب والاستنكار إلى استخدام خيار القوة العسكرية، لا سيما في حال تجاوز العدو ومستوطنوه الخطوط الحمر، فإنَّ الأوضاع ستتغيّر بنسبة كبيرة باتجاه تثبيت معادلة ردع حاسمة تفرض على الاحتلال التراجع أو على أقل تقدير إبقاء الأمور على ما هي عليه.

الخاتمة

قضية القدس والمسجد الأقصى وباقي المقدسات الإسلامية والمسيحية لا يجب أن تبقى خاضعة لمزاج هذه الدولة أو تلك، ولا يجوز أن يستخدمها البعض لتحقيق أهداف ومآرب شخصية، ولا يجب كذلك أن تكون مجرد تركة ثقيلة يحاول الجميع أن يلقيها عن كاهله وينفض يده منها.

القدس ومسجدها الأقصى اللذان سالت من أجلهما الكثير من الدماء، وأُزهقت في سبيلهما آلاف الأرواح، لا يجب أن يتحولا إلى سلعة يزايد عليها بعض أصحاب السعادة والمعالي في سوق النخاسة، ولا يمكن أن تكون مجرد شعار يرفعه جلالته أو فخامته في المؤتمرات.

القدس والأقصى أكبر من ذلك بكثير، وأهميتهما التاريخية والدينية والثقافية والسياسية تتجاوز كل الطوائف والمذاهب والانتماءات، وعلى الأمة، كل الأمة، أن تنفض غبار العجز والخوف عن كاهلها، وأن تتقدَّم من غير تأخير باتجاه مشروع "تحرير القدس" قبل فوات الأوان.