ما سر الإخفاق الجوي الروسي في الحرب على أوكرانيا؟

ما سر الإخفاق الجوي الروسي في الحرب على أوكرانيا؟
ما سر الإخفاق الجوي الروسي في الحرب على أوكرانيا؟

وكالات- المشرق نيوز/

إن القوة الجوية الروسية كان لا بد أن تكون من أعظم عناصر تفوُّق روسيا على أوكرانيا، إذ كان متوقَّعا من القوات الجوية الروسية، بسبب ما تمتلكه من أربعة آلاف طائرة مقاتلة تقريبا ومن خبرة عريضة في قصف المواقع بسوريا وجورجيا والشيشان، أن تؤدي دورا حيويا في اجتياح أوكرانيا، بما يسمح للجيش الروسي بأن يتوغَّل بعُمق في قلب البلاد، ويستولي على العاصمة كييف، ويدكَّ الجيش الأوكراني عن بكرة أبيه. بيد أنه بعد مرور أسابيع طويلة على نشوب الحرب، فإن القوات الجوية لفلاديمير بوتين ما زالت تقاتل للسيطرة على سماء المعركة.

 

لعل فشل القوات الجوية الروسية يُمثِّل الجانب الأهم للصراع العسكري حتى الآن، وإن لم يُناقش إلا قليلا. فقد أظهرت القوات الأوكرانية قوة مُدهِشة في حربها الجوية، وتأقلمت مع تطوُّر الحرب وتتابع فصولها، وإن كان ما زال بإمكان أحد الطرفين أن يربح السيادة الجوية، ومن ثمَّ يُغيِّر مسار الصراع تغييرا جذريا.

 

إن القوة الجوية بوسعها أن تحسم أي حرب، ولكن يصعُب استعمالها على نحو فعَّال، حيث تستند القوة الجوية عادة إلى مجموعة من التقنيات التي تحتاج إلى طاقم عمل مُدرَّب بكفاءة يستطيع أن يُرسي سريعا ما يكافئ نظاما عسكريا محمولا في الجوِّ، وهو ما يعني إنشاء محطات رادار محمولة جوًّا لتقديم إمكانية القيادة والسيطرة، وتوفير مقاتلين لمراقبة المجال الجوي والسيطرة عليه، وتزويد المركبات الجوية بالوقود للإبقاء عليها كلِّها ملأى بالغاز، وتوفير طائرات الحروب الإلكترونية لكبح دفاعات العدو، مع وجود طيف من جامعي المعلومات الاستخباراتية والطائرات الهجومية لتحديد مواقع قوى العدو ودكِّها. والحال أن هذا الجمع من العمليات المتضافرة ينطوي على مئات الطائرات وآلاف الأشخاص الذين يعملون معا على نحو مُنسَّق، وهو الأمر الذي يستغرق عقودا للتمكُّن منه. بيد أن هذه العمليات المتضافرة، حينما تُدار بكفاءة وجدارة، تسمح للجيش بالهيمنة على المجالات الجوية أثناء الحروب، مما يجعل الأمور أيسر على الأرض للقوات البرية والبحرية.

المقاتلات الروسية من طراز MiG-29SMT التي تشكل الرمز "Z" لدعم القوات المسلحة الروسية (رويترز)

لسوء حظ الروس، لم يكن التحديث الأخير للقوات الجوية الروسية في معظمه سوى محاولة للاستعراض، رغم أنه هَدَف إلى تمكين القوات الجوية من إجراء عمليات مُركَّبة حديثة. فقد أهدر الروس أموالا طائلة وجهودا كثيرة بسبب الفساد وانعدام الكفاءة. ورغم تصنيع الكثير من المُعدَّات الجديدة البرَّاقة، مثل الطائرة الجوية القتالية "إس يو-34" التي يروِّج لها الروس بشدَّة، فإن القوات الجوية الروسية لا تزال تعاني من حصول عمليات لوجستية خاطئة، وتفتقر إلى التدريب الواقعي والمُنتظِم. وما يزيد الطين بلَّة أن النخبة الفاسدة الروسية لا تثق في الضباط أصحاب الرُّتَب الدنيا والمتوسطة، ومن ثمَّ لا تسمح بالتفكير في اتخاذ قرارات طموحة مُبتكَرة ومَرِنة مثل تلك التي تعتمد عليها القوة الجوية للناتو. (وقد كتب كثيرون عن الضباط غير المُفوَّضين الذين تمتلئ بهم صفوف القوات المُسلَّحة لدول الناتو، وتجعل عملية اتخاذ القرار العسكرية لا مركزية، وتسمح بمشاركة صغار الضباط على أرض المعركة، وهي ظاهرة شرعت الصين في تطبيقها منذ مدة داخل قواتها المُسلَّحة، في حين تعاني روسيا من افتقادها نتيجة تقاليدها العسكرية القديمة والمركزية التي تحصر صنع القرار في دائرة كبار القادة وحدهم، وهو ما يناقض طبيعة الحروب المتغيِّرة في العقد الأخير)*.

 

كل هذا إن عنى شيئا، فإنما يعني أنه حينما بدأ اجتياح أوكرانيا، لم تكن القوات الجوية الروسية قادرة على شن حملة مُركَّبة ومُدبَّر لها بما فيه الكفاية. وبدلا من العمل على إحكام السيطرة على المجال الجوي، قضت القوات الجوية الروسية أغلب وقتها في تقديم الدعم الجوي للقوات على الأرض أو في قصف المدن الأوكرانية. وبفعلها ذلك، تكون القوات الجوية الروسية قد اتَّبعت التكتيكات التقليدية لقوة قارية تُرجِّح كفة القوة البرية على ما عداها، فالتركيز على القوات البرية يمكن أن يؤتي أُكله في حال كان لديك ما لا حصر له من الجنود مع الاستعداد لخسارة أرواحهم، غير أن روسيا مُنكبَّة على تاريخها الحافل بالانتصارات على الأرض إلى حدِّ أنها فشلت فشلا ذريعا في تقدير أهمية القوة الجوية. "لم تُقدِّر روسيا بتاتا استخدام القوة الجوية، ولم تتجاوز في استخدامها أبعد من دعم القوات البرية"، كذلك أخبرنا "ديفيد دِبتولا"، الضابط المتقاعد من سلاح الجو الأميركي، "ونتيجة لذلك، فإن روسيا في حروبها كافة لم تتخيَّل أو تشن أبدا حملة جوية إستراتيجية".

 

عوضا عن ذلك، تُركت الطائرات الروسية تُحلِّق فوق مواقع أعدائها المباشرة، واستخدم الكثير منها طائرات منفردة دون دعم مُتبَادَل من غُرفة عمليات جوية مُركَّبة كتلك المُتعارف عليها لدى القوات الجوية لحلف الناتو، إذ أُعطي الطيارون الروس هدفا، وسرعان ما طاروا للانقضاض عليه، وفي كثير من الأحيان اعتمدوا على ذخائر غير موجَّهة لإصابة هدفهم المرجوُّ؛ ثم حلَّقوا سريعا بعيدا عن موقع الاستهداف محاولين أن يتفادوا إسقاط طائراتهم. إن الطيار الروسي يتلقَّى الأوامر ويُنفِّذها، أيًّا كان الثمن. وحتى قدرات الاستخبارات والاستطلاع والمراقبة الروسية بدت هزيلة على نحو مفاجئ، فنادرا ما تظهر القوات الروسية هذه الأيام وهي قادرة على تحديد وترسيم الأهداف الأوكرانية ونشر إمكانياتها الجوية لمهاجمتها بما يكفي من السرعة لإحداث تغيير حاسم في المعركة. (ومُعظم إنجازات الروس على الأرض إنما ارتكزت إلى التقدُّم في الجنوب والشرق حيث الأغلبية السكانية الروسية والمعركة الأسهل بواسطة القوات البرية الحاسمة دوما بالنسبة إلى موسكو، على عكس معركة كييف التي فشلت فيها رغم إمكانية الظفر بها إن تسنَّى للروس بسط سيادتهم الكاملة في الجو)*.

بقايا طائرة مقاتلة روسية من طراز Su-35 تعرضت لها القوات المسلحة الأوكرانية، مع استمرار هجوم روسيا على أوكرانيا، في منطقة خاركيف، أوكرانيا (رويترز)

بطبيعة الحال، يكمُن السبب الأهم وراء هذا الفشل الذريع للقوات الجوية الروسية، وهذا الحذر الواضح للطيارين الروس، في المقاومة الأوكرانية. فقد طوَّر الأوكرانيون خلافا لعدوِّهم مفهوما صلبا عن العمليات الجوية؛ وهو ما سَمَح لهم بوضع العراقيل أمام ما بدا مسارا سهلا للسيطرة الجوية الروسية. فقد دمج الأوكرانيون مجموعة من القدرات الجوية والدفاع الجوي كي يتمكَّنوا من إحباط القوات الجوية الروسية التي تتفوق عليهم ببون شاسع، وذلك بدءا من صواريخ أرض-جو الرخيصة المحمولة، إذ استطاع الأوكرانيون تقييد القوة الجوية الروسية بدرجة كبيرة في عدد قليل من المناطق الشرقية والجنوبية، الأمر الذي حدَّ من قدرة روسيا على المناورة جوًّا بدرجة كبيرة.

 

إن إضافة منظومة صواريخ "إس-300" ذات القوة الأكبر والمدى الأطول، التي أتت من سلوفاكيا إلى أوكرانيا، جعلت الروس أكثر عُرضة للخطر، فتهديد "إس-300" يُجبر الطائرات الروسية المنفردة، التي تفتقر عموما إلى التزوُّد بالوقود وإمكانيات الحرب الإلكترونية ودعم القيادة والسيطرة، على الطيران بارتفاعات منخفضة اتقاء للهجمات الأوكرانية، وهو ما يجعلها بدوره أكثر عُرضة لصواريخ أرض-جو المحمولة. لا يمكن لأوكرانيا استهداف جميع الطائرات الروسية في الأخير، غير أنها استخدمت ما لديها بذكاء لكي تضمن بقاء الطيارين الروس في حالة من القلق خشية استهدافهم في أي مكان، مما أجبرهم على التصرُّف بشكل دفاعي وقلَّل فعاليتهم.

 

إن ما وفَّرته قدرة أوكرانيا على مقارعة عدوها لحماية مجالها الجوي لم يقتصر على توفير الحماية لقواتها فحسب، بل مَكَّنها أيضا من أن تكون في موقع المُهاجِم بعض الأحيان. وكان الأوكرانيون، في وقت مُبكِّر من الحرب، قادرين على استخدام الطائرات المُسيَّرة التركية "بيراقدار" لمهاجمة أهداف بالغة الأهمية، كما استخدم الأوكرانيون طائرات مُسيَّرة للتعرُّف على صواريخ أرض-جو الروسية وتدميرها، مما جعل القوات البرية الروسية أكثر عُرضة للهجوم من الجو.

 

أظهر الأوكرانيون أيضا قدرة أكبر بكثير من الروس على استخدام مواردهم الجوية المحدودة بصورة خلَّاقة، ويبدو أن غرق السفينة "موسكفا"، إحدى سفن أسطول البحر الأسود الروسي، الذي أذهل العالم؛ حَدَث بالفعل من خلال ضربة ذكية مزدوجة، حيث زَعَم المسؤولون الأوكرانيون أنهم استخدموا طائرة مُسيَّرة لإرباك قدرات "موسكفا" المضادة للطائرات، ومن ثم أطلقوا صواريخ "نِبتون" المحلية المضادة للسفن قبل أن تسنح الفرصة لطاقم السفينة الروسي المرتبك أن يرُدَّ.

يكشف هذا الاستخدام المُبتكَر للقوة الجوية بأنه قد يكون لدى الأوكرانيين فهم أكثر تطوُّرا للعمليات الجوية يفوق ما لدى العديد من دول الناتو نفسها، التي تُعَدُّ هيمنتها الجوية أمرا مفروغا منه. إن ما قامت به أوكرانيا من خوض معركة جوية ضد عدو أغنى وأشد بأسا بثمن زهيد هو أمر بالغ الصعوبة، وقد قال "دِبتولا" إن الغرب عليه أن يتعلَّم الكثير من النجاح الأوكراني، مضيفا: "لقد أصبحنا مهيمنين جدا جويا لدرجة أننا لم نضطر أبدا لأن نفكر في كيفية استخدام القوة الجوية في حال كنا القوة الأدنى. إن أوكرانيا تطرح علينا بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام التي يجب التفكير فيها بجدية، حتى لو كان ذلك من أجل أن نعرف كيف سنواجه خصما ذكيا".

 

ستكشف لنا الأسابيع المقبلة ما إذا كان لدى الروس القدرة على التعلُّم من أخطائهم والاستفادة بشكل أفضل من تفوُّقهم الذي لا يزال هائلا في الطيران. أما الأوكرانيون فسيشهدون قريبا نمو قدراتهم الجوية الهجومية، وقد تكون أحدث طائراتهم المُسيَّرة قادرة على استهداف أفضل للمدفعية بعيدة المدى. وقد بدا لنا في 30 إبريل/نيسان الماضي كيف أوشكت نيران المدفعية الأوكرانية أن تُصيب الجنرال "فالِري غيراسيموف"، رئيس الأركان الروسي أثناء زيارته للجبهة. هذا ويحصل الأوكرانيون الآن على سلاح أكثر تقدُّما، بما في ذلك طائرات مُسيَّرة من طراز "سويتش بلَيد" (Switchblade) و"فينيكس غوست" (Phoenix Ghost)، التي تستطيع البقاء لبعض الوقت فوق مواقع العدو قبل أن تُستخدم لتدمير الآليات.

 

ما دام المجال الجوي فوق ميدان المعركة محل نزاع، فسيتمكَّن الأوكرانيون من تطوير وتوسيع استخدامهم للقوة الجوية، ورغم أنهم قد لا ينتصرون في الحرب برُمَّتها في نهاية المطاف، فإنهم أحدثوا ثورة بالفعل في الكيفية التي ستُخاض بها المعارك القادمة مستقبلا.

—————————————————–

* ملاحظات المُحرِّر.

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع المشرق نيوز.