حركة فتح والانتخابات : بداية النهاية أم طريق للخلاص... بقلم عبدالحكيم عامر ذياب

عبد الحكيم دياب.png
عبد الحكيم دياب.png

الدوحة* المشرق نيوز

تاريخياً، كانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) الطلقة الأولى، والخيار الأول، والفصيل الذي رضي أن يكون حامل الهم الفلسطيني، وحامي القضية الفلسطينية، وخير من ترأس منظمة التحرير على مدار سنوات طويلة. ففتح التي خاضت أول مرة الانتخابات عام 1996، لم يختلف أي شخص عليها أو معها، لأنها وقفت ودعمت كل توجهات المستقلين والأحزاب المعارضة آنذاك، ووفرت لهم الأجواء الديموقراطية الموائمة، ولهذا نجحت بامتياز وبمباركة الجميع.

استلمت حركة فتح زمام السلطة في زمن تعددت فيه الفصائل والأحزاب، والتحقت بها باقي الفصائل كالجبهة الشعبية والديموقراطية وحركة حماس ليتبلور اتفاق بدا وكأنه يضع الجميع في طريق واحد. ولكن، في الواقع، أدت هذه الطريق إلى وقوع القضية الفلسطينية فريسة بين براثن السياسة، في حين لم تكن هذه الحال عندما كانت حركة فتح رأس السلطة الوحيد.

أتت الانتخابات وتم تنظيمها بشكل لاقى صخباً واهتماماً واسعين على المستوى الفلسطيني والدولي، إلا أن السؤال المحوري بقي عالقاً دون إجابة: ماذا تريد إسرائيل؟ وما هي خططها في خضم حالة التشرذم التي تعيشها الحالة الفلسطينية منذ أكثر من عقد من الزمان؟ إسرائيل أحد العوامل الرئيسية لما آل إليه الحال الفلسطيني من تدهور متواصل. منذ توقيع اتفاق اعلان المبادئ، لبست كل الفصائل عدا حركة الجهاد الاسلامي عمامة ورداء أوسلو، بدأت الماكينة الإعلامية والسياسية الإسرائيلية ترسم خطى الفلسطينيين، وتقودهم نحو الهدف الذي تسعى هي إليه.

مؤخراً، تحديداً في 15 كانون الثاني 2021، أصدر الرئيس محمود عباس مرسوم إجراء الانتخابات لوأد الانقسام الفلسطيني المشؤوم وتوحيد الصف الفلسطيني بعد انقسام استمر لما يزيد عن 15 عاما أدى إلى سيطرة فتح على الضفة الغربية وحماس على قطاع غزة. جاء هذا المرسوم الرئاسي رداً على الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأمريكي السابق من نقل سفارة واشنطن للقدس المحتلة، وإعطاء الضوء الأخضر لتل أبيب لضم معظم أراضي الضفة الغربية. ومن لحظتها، بدأ الزخم التفاوضي بين أطراف الإنقسام في القاهرة وتعين على جبريل الرجوب، رئيس وفد حركة فتح، وصالح العاروري، رئيس وفد حركة حماس، العمل بشكل حثيث على إزالة كل العقبات القانونية والأمنية والفنية من أجل ضمان سلامة ونزاهة الانتخابات.

من جهة أخرى، سببت التواريخ المحددة لعقد الانتخابات التشريعية (مايو/أيار المقبل)، والرئاسية (يوليو/تموز) حالة من الإرباك داخل أروقة حركة فتح خاصةً في إصرار قياديين مثل القيادي الأسير مروان البرغوثي على نيته الترشح في الانتخابات الرئاسية وتشكيل قائمة منفصلة، أو ناصر القدوة ناهيك عن محاولات القيادي المنشق عن حركة فتح محمد دحلان في الوصول إلى الانتخابات بأي شكل من الأشكال مستغلاً اسم وتاريخ الحركة.

أدت هذه العوامل مجتمعة إلى إضعاف الحركة وإجبارها على اتخاذ خيارات صعبة ومصيرية، مثل الدخول في قائمة مشتركة مع حركة حماس، نظراً لقوة الأخيرة إن لم يكن في غزة ففي الضفة والقدس؛ أو شريكة في قوائم رسمية أخرى مع فصائل المنظمة؛ أو خوض الانتخابات بقائمة رسمية واحدة، بمعايير محددة، لكن هذا الخيار لا يمنع تشكيل قوائم بعناوين أخرى لشخصيات غير راضية عن القائمة الرسمية.

يستطيع المراقب للسياق الفلسطيني العام وحركة فتح على وجه الخصوص أن يتوقع مدى كارثية حصول الانتخابات في موعدها على ما تبقى من فتح، خاصةً مع حالات التخويف والتخوين داخل الحركة. لقد كانت حقيقة مثبتة لغالبية الشعب الفلسطيني فيما مضى أن فتح هي واجهة المشروع الوطني وقائدة المشروع الوطني الفلسطيني، ولكن ما يطفو على الساحة من خلافات عميقة داخل اللجنة المركزية لحركة فتح وعمقتها مواقع التواصل الاجتماعي هزت هذه الصورة المثالية عن حركة فتح وقادتها. وما يزيد الطين بلة أن هذه الخلافات ما هي إلا نتاج الصراع على السلطة وتعبير اخر عن الأزمة التي تراكمت منذ سنوات طويلة. ولم يتبق من حركة فتح التي تحملت كل الظروف الصعبة والمناكفات المختلفة منذ نشأتها سوى حركة تجتر تاريخها النضالي وقيادات تتنازع فيما بينها لمكسب مادي أو مركز قيادي في سلطة تحت إحتلال.

مع حالة الوهن والانقسام الحاد داخل صفوف فتح، جاءت حماس بعد فوزها الكاسح في المجلس التشريعي، فنصبت نفسها المنافس القوي لحركة فتح، وهنا كانت هزيمة فتح الأولى. وعلى الرغم أن حركة حماس لم يكن لها أي تأثير إيجابي في الواقع الفلسطيني، ولم تستطع أن تنافس حركة فتح سياسيا، إلا أن ذلك لم يغفر عجز فتح وفشلها في مواجهة كل العقبات الداخلية للحفاظ على هيكلها قويا.

مما لا شك فيه أن حركة فتح تمر في مرحلة عصيبة للغاية؛ إذ فقدت دورها الوظيفي بفعل الأحداث التي استجدت على العالم، وعجز قيادتها وكوادرها عن إدارتها بشكل منصف وموضوعي، كما فشلت في إقامة الدولة في الموعد الذي حددته الاتفاقيات الدولية، ومع بدء صعود المنافس الحمساوي كنتيجةٍ للانتخابات التشريعية عام 2006، والتي أحدثت انقلاباً في موازين الثقل السياسي على الساحة الفلسطينية، مما أضاف ملحاً على الجرح النازف أصلاً لحركة فتح.

والآن، يتنازعون فيما بينهم حول الانتخابات، بعد اختلافهم على مسألة هي فعلياً معادلة شديدة الوضوح بين شعبٍ محتَل ودولة احتلال، وتاهت الحركة مع فشل محاولات التسوية مع إسرائيل وتعمق الأزمة وانسداد أفق التفاوض منذ سنوات بسبب عنجهية وعجرفة إسرائيل التي نجحت بحرفية بالتخلص من ملفات سياسية خطيرة وأبقت على التنسيق الأمني إلا بما يصب في مصلحتها وفي القضايا المدنية والحياتية لا غير.

لم تستطع حركة فتح لم شتاتها وإيجاد حلول لأزماتها الداخلية والخارجية، فقد انشغلت بحل الأزمات التي افتعلها الاحتلال من جهة، والأزمات التي تسببت فيها حماس بعد الانقلاب على السلطة من جهة أخرى، ولم يعد أمامها خيارات سوى بقاء السلطة تحت الاحتلال، لتقع فتح في كمين دفعت هي جزءاً كبيراً من ثمنه في وزنها الشعبي والسياسي على حد سواء.

والآن، نقف في مواجهة تساؤل هو أقرب إلى تحدي مصيري: كيف يمكن أن تشارك وتحقق حركة فتح فوزا يتساوق مع تاريخها وتضحياتها في الانتخابات المرتقبة؟

حالة التشرذم والانقسام لم تقتصر على النزاع الفلسطيني-الفلسطيني، أو لنقل الفتح-الحمساوي، بل أصبح ينخر بشكل أعمق في داخل وصميم هذه الحركات. حركة فتح، على الرغم من حرصهم الكبير على استمرار وجودهم في السلطة ولو كان على حساب أمور أكثر أهمية، إلا أن الخلافات بين كوادرها بدأت تتعاظم، وعوراتها التي تراكمت منذ سنين ظهرت للعيان، وأخذت تتلقى الصدمة تلو الأخرى، لنصل إلى هذه الحالة المحزنة من الخصومة والارتداد والنزاعات الداخلية.

ما حدث مع حركة فتح لا يعد سابقة، بل حدث مع تنظيمات أخرى مثل اليسار الذي تراجع بعد أن كان في أوجه. لكن الوقت يلعب لصالح حركة فتح إن استطاعت انتهازها واستغلالها بالشكل الأمثل. فالطرف الآخر المنافس الذي حكم قطاع غزة فشل في تقديم نموذجا أفضل من تجربة فتح في السلطة، مما يعطي الفرصة باستمرار سيطرتها. من المؤسف القول، أن ما يؤهلها لترأسها للسلطة حتى الآن لا يعزى سوى غياب المنافس لا الدور الوظيفي الذي من الممكن أن تعتمد عليه الحركة أو الأداء الجيد كسلطة حاكمة.

المطلوب من حركة فتح ونحن على أبواب الانتخابات العامة الهدوء والتروي في اتخاذ القرارات وعدم التهور وأن تحاول رص صفوفها وتوحيد كوادرها ومناصريها، والتخلص من كل الشوائب والشخوص التي شوهت صورة الحركة والسلطة في أذهان المواطنين، وأن تعود إلى أجندتها الوطنية النضالية وتوظيف هذه الفرصة للاستمرار باحتضان القضية الفلسطينية وإلا فإننا أمام إعلان شهادة وفاة الحركة. وكان الأجدر بحركة فتح وبالتالي السلطة أن تقف بوجه سياسات إسرائيل ورفضها، وبالتالي يقتنع الفلسطينيون أولاً ومن ثم العالم بأجمعه أن السلطة المتمثلة بفتح هي الأقدر والأجدر في وضع أسس الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وإضعاف دور إسرائيل في المنطقة. يتوجب على حركة فتح أن تعود لشعارها الأول (كل فلسطيني يولد فتحاويا حتى ينتمي لغيرها) وأن تضم الكل الفلسطيني، كما فعلت سابقاً، ولكنها الآن عليها أن تكون أكثر ذكاءً وحنكةً ووعياً لتتقبل الآخر وتستوعبه ضمن المنظومة الحاكمة، لا أن تنقلب إلى نسخة أخرى من أشكال الحكم الديكتاتوري في دول العالم الثالث والعربي تحديداً، وهو ما يؤدي إلى نكبات أخرى ولكن بأيدٍ فلسطينية.