خميس أبو شعبان – صنوبرة الوطن وعنقاء الثقافة !! بقلم/ نعمان فيصل

خميس أبو شعبان – صنوبرة الوطن وعنقاء الثقافة !!  بقلم/ نعمان فيصل
خميس أبو شعبان – صنوبرة الوطن وعنقاء الثقافة !! بقلم/ نعمان فيصل

خميس أبو شعبان – صنوبرة الوطن وعنقاء الثقافة !!

بقلم/ نعمان فيصل

دعاني الأخ العزيز سامح خميس أبو شعبان لمنزله صباح أمس الثلاثاء 9 آذار 2021م لحضور حفل افتتاح جدارية (عاشوا هنا)، والذي نظمته وزارة الثقافة الفلسطينية في مدينة غزة لتكريم الأستاذ الكبير الراحل خميس سعيد أبو شعبان تقديراً للعلاقة الطيبة والمحبة المتبادلة التي كانت بيني وبين والده رحمه الله، وبعد انتهاء الحفل، عدت أدراجي إلى المنزل، فملأ الحنين والشوق قلبي إلى ذكرى هذا الرجل الطيب، وإلى مكتبته التي كنت أجد نفسي وروحي فيها، وفي روّادها، فكانت أجمل ذكريات.

كنت محظوظاً في حياتي بمعرفة الأستاذ خميس أبو شعبان، إذ كنت أتردد على المكتبة الهاشمية التي كان يملكها، لشراء العديد من المؤلفات الجديدة التي كانت تصدر في التسعينيات من القرن العشرين، وهنا أحب أن أشير إلى اللقاء الأول معه، إذ لمست فيه اهتمامه بروّاد المكتبة، وتوفير ما يطلبونه من كتب ومجلات دورية، فسألني يومها: ماذا تحب أن تقرأ؟ وتلطف الرجل بإهدائي كتابين هما: "مذكرات دجاجة" للدكتور إسحاق موسى الحسيني، و"أحلام شهرزاد" للدكتور طه حسين، وقلت له: (ما ينفع أن تكون الهدية حاف، لازم أن تزين بغلاف جميل بأن تكتب إهداء كعادة المهدين)، فضحك الرجل، وتفضل بكتابة إهداء على الكتابين، وأذكر أنه جرت مداعبة لطيفة حول اسم: (مذكرات دجاجة)، فشعرت يومها بأنه يمثل الأديب الذي يجمع بين طرافة الأدب وبين متانة الأخلاق بكل ما تحويه الكلمة من معان، وقلت في نفسي: لأول مرة أرى صاحب مكتبة يهدي كتباً، فقدرت له هذا الموقف الكريم، وهنا تجلت براعة خميس أبو شعبان ولباقته في اكتساب محبتي له، ففي حياته من المواقف والقصص ما يدل على أنه كان أنفع الناس للناس.

نعمان وابو شعبان 3.JPG
 

وبدأت علاقتي معه في النمو، فقد عقد الود بيننا أمتن أواصره، وكنت أزوره باستمرار في مكتبته، إذ كانت المكتبة أشبه بنادٍ ثقافي، وملتقى للأدباء والشعراء، وهي ظاهرة مميزة يندر أن تتكرر.

وفي إحدى الزيارات لمكتبته أهداني - رحمه الله - طقم أقلام من النوع الفاخر، وفي إحدى المرات سألته عن أحب الشعراء إلى قلبه، فأجابني: إنه أبو العلاء المعري، وقال: أحب له بيت شعر خالد: وكتبه لي على قصاصة صغيرة ما زلت أحتفظ بها:

خفف الوطء ما أظن أديم    الأرض إلا من هذه الأجساد

ومن يومها قرأت للمعري، وأحببته، بعد أن اطلعت على مرثيته المشهورة التي قالها في الفقيه القاضي أبي حمزة التنوخي، ومن ضمنها هذا البيت الذي أهدانيه المرحوم خميس أبو شعبان، فأدركت أهمية المعري بين الشعراء، إذ أنني لا أفضل على المعري شاعراً آخر، إذ تجاوز أبو العلاء المعري فيلسوف المعرّة زمنه في قدرته الفكرية على التحليل والنقد، وكأن المعري يقول لنا هذه المقولة المشهورة: (ويل لرجل سبق عقله زمانه)!! فكيف له أن يحلق بنا في هذه الأكوان البعيدة تحليقاً لم يستطع أن يحلق مثله شعراء يبصرون منذ أن ولدوا إلى أن ماتوا؟ حقاً، فقد كان أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وكان لا يعرف الحدود في الفكر والفلسفة.

وكنت أتناوب على زيارة الأستاذ خميس أبو شعبان في منزله في أيام الأعياد، وفي إحدي الزيارات أصر الرجل إلا أن أتناول معه (السماقية) طعام أهل غزة المشهور في المناسبات، ثم أهداني العديد من صوره اعتزازاً بتلك الصداقة، وهو في ريعان شابه عندما كان يعمل في مجال الصحافة في دار أخبار اليوم، وتجمعه بالعديد من الزعماء العرب والشخصيات الوطنية، أمثال: الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وعلي ماهر، رئيس وزراء مصر، ومحمد حسين هيكل، وأحمد حلمي باشا، وناصر الدين النشاشيبي، وزهدي ساق الله، وخضر الصوراني، ومحمود نجم، وآخرين، كما أهداني بطاقة حفل زفافه، وهي مؤرخة في 12 آب 1954.

نعمان وابو شعبان 2.JPG
 

لقد عاصرت المرحوم خميس أبو شعبان ردحاً من الزمن، وكانت له نظرات في الرجال لم تخطئ فراستها، ولم يخب تقديرها، فكان رحمه الله معروفاً بالجرأة في إبداء الرأي، والصراحة في النقد، والقصد إلى الحق، ذلك لأنه كان يهدف إلى المصلحة العامة، لا لاعتبارات أخر.

كان يؤمن بالعروبة والوحدة العربية، وكان يردد لنا دائماً: (إن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، إذ يجمعنا التاريخ الواحد واللغة الواحدة والدين الواحد والأمل الواحد في الخلاص من كابوس الاحتلال، وإذا كان الساسة قد صمتوا، فإن الكتّاب والشعراء يجب ألا يصمتوا أبداً، فدورهم لا يقل أبداً عن دور الأدب في الأعمال التخميرية التي أسرعت بالثورة الفرنسية، وهيأت الأذهان لها).

وأهداني قصيدة شعر قيلت قبل مائة سنة تقريباً، نظمها الشاعر الغزي إبراهيم عاشور، والتي قالها في تهنئة والده طيب الذكر الشيخ سعيد أبو شعبان بتقليده منصب إفتاء غزة سنة 1346 هجرية، والتي يقول في مطلعها:

بالعلمِ والدين حالُ الخلقِ ينتظمُ   بحكمة الله لا ما يشرع الأممُ

لا يُصلحُ الناسَ إلا وضعُ خالقهم   هو الموفقُ للأزمان والحَكَمُ

إلى أن قال:

فما خلت غزةُ من سادةٍ نجبوا   وفي العلوم وفي العلياء هم نجمُ

دامت عروساً وبالإسلام مزهرةً   ودام فيها لأهلِ العلم ذا الشمم

أدام ربي بها مولانا مفتيها   محافل العلم يبديها ويختتم

فقد كان الأستاذ خميس أبو شعبان - رحمه الله - رجلاً اجتماعياً، فحياته عريضة خصبة مليئة بالأحداث التي شغل الناس بها زمناً، فكان رجل العلم والأدب، معتداً بنفسه، أريحي النفس، عظيم الوفاء، وأحفظ للعهد وأصدق للود، ظاهر المروءة، يعرف للناس منازلهم، وقوراً طيب الأخلاق واسع الحلم.

كانت هذه الصفات التي تدل في مجموعها على السر في مكانته العظيمة التي وصل إليها في عصره، وبلغها من نفوس معارفه، هي أيضاً جواز المرور الذي ارتقى منه الرجل إلى كل من عرفه، والتزكية التي تفتح له الأبواب في كل الرحاب، ولقد أحبه الأدباء والشعراء، وأجله الحكام ورجال العلم، وقدره أفاضل الناس من أصدقائه.

وفي الختام، لقد كان رثاء الأعلام من الرجال – ولا يزال – واجباً يتحتم على الشعراء والكتّاب أن لا يتخلوا عنه، فلا شك أن تصويرهم لأخلاق الفقيد، واتفاق الصورة وملامحها وسماتها عند كل واحد منهم لدليل إجماعي على صدق هذا الرجل وصفاته الكريمة التي كان يتمتع بها، لقد كانت المكتبة الهاشمية الصرح الثقافي الأول في قطاع غزة، وقبلة كل طالب علم وثقافة، وكان المرحوم خميس أبو شعبان يلجأ إليه كل مَن أراد التزود بالعلم والمعرفة، أو ليس خميس أبو شعبان، صنوبرة الوطن وعنقاء الثقافة؟

رحم الله الأستاذ الكبير خميس أبو شعبان، فهو شخصية نادرة لا تنسى أبد الدهر، وإني لأرجو أن تتكرر هذه الظاهرة الثقافية النادرة في عصرنا، وتعم كل مدن وقرى فلسطين.

انتهى