هكذا قتل الاحتلال داليا سمودي وهي تحاول حماية طفليها من الغاز فباغتتها رصاصةٌ بمنزلها

داليا سمودي طفليها.jpg
داليا سمودي طفليها.jpg

رام الله -

من وسط جموع المشيعين شقت الحماة الستينية فوزية سمودي "أم عماد" طريقها نحو نعش زوجة ابنها باسم، الشهيدة داليا أحمد استيتي سمودي، وركضت إلى النعش حينما كان يغادر منزلها، عصر الجمعة، وصرخات الحماة تتفجر مع دموعها حرقة على كنتها التي ارتبطت بها بعلاقة وطيدة منذ اقترانها بابنها قبل أكثر من 3 سنوات.

بأعلى صوتها قالت أم عماد: "الخميس كنت عندي، وأخبرتك ابقي ولا تذهبي للبيت، ظلي معنا يا غالية، لماذا تذهبين؟ يا عمري لو بقيت ما كان حدث ذلك، لمن تركتيني وزوجك وطفليك، عودي، أو خذيني معك، فلماذا تركتني ورحلت بهذه السرعة".

ثم تقول أم عماد: "الله يرحمها ويصبرنا على فراقها، والله يحسر قلبهم، ويشل أيديهم، حرمونا منك، وحسرونا عليك، وفرقوك عن أولادك".

لحظة وصول جثمان الشهيدة داليا إلى منزل عائلتها في مدينة جنين فجرت ثورة غضب عارمة تحولت كما النيران لتشعل مشاعر الحزن والغضب للعائلة التي لم تصدق النبأ المؤلم وأصاب الزوج باسم سمودي وشقيق داليا ناصر استيتي بنوبة إغماء، وبلمح البصر انفجرت الحماة "أم عماد"، لتغرق في بحر من الدموع بوداع داليا وتناجي رب العالمين ليعيدها للحياة التي وضع رصاص الاحتلال لها نهاية سريعة في مقتبل العمر، فلم تتجاوز داليا سن الـ23 عاماً، وما زال بين يديها طفل رضيع في عمر 6 أشهر وآخر في الثانية من عمره.

هكذا استشهدت داليا!

"الحقوني.. الحقوني"، كانت صرخة الاستغاثة والكلمات الأخيرة التي أطلقتها الوالدة الشهيدة داليا عند الثالثة من فجر الجمعة، في منزل زوجها في حي الجابريات في مدينة جنين، بعدما باغتتها رصاصة الاحتلال في الصدر مباشرة، فأوقفت دورة الحياة في جسدها في تمام الساعه الثانية ظهراً بعدما خاض الأطباء في مستشفى الشهيد خليل سليمان الحكومي معارك عديدة لإنقاذها، لكنها باءت بالفشل.

وبحسب مدير المشفى الدكتور وسام أبو بكر فإن داليا تعرضت للإصابة في صدرها، لكن الرصاصة اخترقت الكبد والبنكرياس والشريان الأبهر، "وعانت داليا من نزيف حاد جداً، وأُجريت لها عدة عمليات جراحية، ثم أُدخلت إلى غرفة العناية المكثفة، لكنها استشهدت من تأثير الإصابة القاتلة".

منذ وصول الجريحة داليا إلى المستشفى، عمت أجواء الحزن والألم في أوساط عائلتها آل استيتي في مخيم جنين وأسرة زوجها آل سمودي في جنين واليامون، وتدفق الجميع مع العشرات من المواطنين للمستشفى لمؤازرة العائلة وشد أزرها في مواجهة المصاب الجلل، وما كاد يعلن الأطباء نبأ استشهادها حتى أصيب زوجها باسم وشقيقها ناصر بالإغماء، فيما لم يحتمل حماها السبعيني جاسر توفيق طاهر سمودي النبأ، كان يحمل حفيديه سراج وإلياس ويبكي بحسرة وحرقة، وقال: "بأي ذنب تقتل ابنتنا الغالية، ويُيتّم طفلاها، ويحرمان منها للأبد، إنها جريمة لا تغتفر، ويجب محاكمة الاحتلال وجنوده الذين قتلوها بدم بارد دون ذنب أو سبب".

رصاصة باغتتها دون إيصال الحليب لطفلها!

تنهمر دموع الرجل الذي بدى في غاية التأثر والقهر، ويقول: "داليا تعيش مع ابني باسم في شقة بعمارتنا في حي الجابريات الذي اقتحمته قوات الاحتلال، استيقظنا على صوت إطلاق النار والانفجارات الرهيبة التي أثارت خوفنا، فلزمنا منازلنا ولم نغادرها".

على صوت بكاء طفلها إلياس، نهضت داليا لتحضير الحليب له، وعندما سمعت صوت الرصاص واستنشقت الغاز المسيل للدموع، توجهت لإغلاق نافذة المنزل لحماية طفليها سراج وإلياس وأُسرتها ومنع تسرب الغاز لمنزلها، لكن جنود الاحتلال كانوا يطلقون النار بغزارة، فأُصيبت داليا برصاصة غادرة في صدرها، وكانت آخر كلماتها استغاثة لزوجها لانقاذها.

سارع الزوج لحمل زوجته بين ذراعية ونقلها لتسليمها لطواقم الهلال الأحمر التي حضرت فور تلقيها الاستغاثة، لكنها لم تسلم أيضًا من رصاص الاحتلال، ويؤكد مدير مركز الطوارئ في جمعية الهلال الأحمر في جنين محمود السعدي، أن قوات الاحتلال أعاقت حركة ووصول سيارة الإسعاف للمنزل بسبب إطلاق النار بشكل مباشر على السيارة، لكن رغم اختراق الرصاص الإسرائيلي لمركبة الإسعاف والمخاطر بسبب الانتشار المكثف للاحتلال وعدم توقف الرصاص الاحتلالي، خاطر الفريق الطبي ونقل الجريحة الأم إلى مستشفى الشهيد خليل سليمان الحكومي.

أما حمى الشهيدة داليا، فيقول: "لقد عشنا لحظات رعب وصدمة قاسية جداً، وداليا تنزف أمامنا، ورصاص الاحتلال لا يتوقف، ما سبب لها مضاعفات ونزيفاً حاداً، الاحتلال يتحمل المسؤولية عن هذه الجريمة، فأين مؤسسات حقوق الإنسان؟ وأي شريعة وقانون يجيز إطلاق النار على مواطنة آمنة داخل حرم منزلها وقتلها بدم بارد".

سخط وغضب

أثارت جريمة الاحتلال الغضب والسخط في جنين، وبينما دوّت مكبرات الصوت عبر المساجد تنعى باسم القوى الوطنية والإسلامية شهيدة فلسطين الأُم الضحية الجديدة للاحتلال، والتوعد بالعقاب والثأر والانتقام لجرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، وقف والد الشهيدة الشيخ أحمد استيتي فوق رأس جثمانها، يمسح دموع إخوانها ويصبرهم.

وقال الشيخ استيتي: "نحتسبها عند رب العالمين شهيدة، وهذا هو الاحتلال الذي يستمر في ارتكاب الجرائم بحق شعبنا الصابر والمرابط، ورغم الألم والغصة، فالحمد لله صابرون وراضون بقضاء الله وقدره".

وأضاف: "لا يوجد كلمات تعبر عن مأساتنا وجرحنا النازف على فقدان ابنتنا في ريعان الشباب، ولا نملك سوى الصبر والدعاء لرب العالمين أن يُجنب شعبنا الويلات والنكبات وفقدان الأحبة".

ووسط مشاعر الغضب، انطلقت مسيرة تشييع جثمان الشهيدة داليا بعدما سجي جسدها الطاهر بعلم فلسطين، فيما تعالت هتافات الحناجر، سخطاً وغضباً على الاحتلال، فأكدت أن الجريمة لن تمر دون عقاب، ودعت فصائل المقاومة للثأر والرد وتصعيد المقاومة ضد الاحتلال الذي قتل هذه الروح البرئية بدم بارد.

لم ينتهِ المشهد.. سراج وإلياس دون أُمهما

لم ينتهِ المشهد، فقد كان وقع الحدث أكثر صعوبة وقساوة في منزل عائلة زوج الشهيدة حيث كانت ترعى طفليها سراج وإلياس، وخرجت منه جريحة وعادت محمولة على الأكتاف بعد ساعات، ووقف كل رجال ونساء وأطفال حي الجابريات حيث منزل زوجها، عن الكلام، فلا مجال للغداء في يوم الجمعة، خبر مفزع وقتل أُم ترضع طفلها، وقف الجميع بصمت وحسرة أمام دموع العائلة والأهل والجيران، خاصة مع حضور طفليها، فقد بكى سراج وإلياس لشدة خوفهما عندما شاهدا الجميع يبكون، بمن فيهم والدهما الذي لم يقو على الحديث، فيما عمهما عماد سمودي استجمع قواه ومسح دموعه، وقال: "المؤلم أنهما يبكيان ولا يشعران أو يعرفان حجم الألم ومعنى الفاجعة التي حلت بنا وبهما، شعرت بالاختناق والوجع، ولم أتمالك أعصابي والطفلان يبكيان مثلنا في وداع والدتهما التي ستغادرهما للأبد، إنها فاجعة كبرى ألمت بنا جميعاً، نبكي لشدة حسرتنا على شبابها وطفليها، ما ذنبهما؟".

غادرت الأم داليا قبل أن تتحقق أحلامها، كانت أروع الأمهات التي انتظرت أفراحا كثيرة مع عائلتها، لكن رصاص الاحتلال صنع جرحاً سيبقى ينزف كلما كبر الصغار، فهل نام سراج وإلياس ليلتهما الأولى دون والدتهما وحضنها وحنينها؟ كيف ناما؟ ومن أعد لهما الحليب؟ ومن سيسرج لهما عتمة الليل دون داليا التي ارتقت لعلياء المجد شهيدة؟ فما أقسى ليلتهما الأولى وما أصعب القادم، فكل العالم لن يعوضهما عن حضنها لحظة.