عالم ما بعد #كورونا .. د. محمد إبراهيم المدهون

محمد المدهون.jpg
محمد المدهون.jpg

عالم ما بعد #كورونا

د. محمد إبراهيم المدهون


تتزايد مؤشرات أن #كورونا ستكون مرحلة فاصلة في تاريخ البشرية وكوكبها الذي دان للإنسان في استسلام غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، جاءت #كورونا من حيث لم يحتسب إنسان العصر المعرفي النابض بالذكاء الصناعي والمهيمن على كوكب الأرض والممتد إلى فضاء لا نهائي من سطوة المعرفة والمقبل على الجيل الخامس " G5"، لتصنع فارقاً سيكون مؤرخاً لعالم ما بعد #كورونا المختلف عما قبلها.

(1)
العولمة والاقتصاد عنوان رئيس للبشرية التي تقودها أمريكا لتحقق غزواً ثقافياً قبل أن يكون عسكرياً ولعل #كورونا تصنع مرحلة ما بعد العولمة المتآكلة بشكل متسارع لصالح الدولة الوطنية ليصبح عالماً أقل انفتاحاً خارجياً وأكثر انتماءً للقومية الضيقة بل ربما تذهب باتجاه صراعات الاستقطاب الحاد والدفاع الذاتي عن المكون الضيق على حساب فكر العولمة وثقافتها، بل أكبر من ذلك بتعمق الفجوة بين المدارس الفكرية والثقافية العالمية سواء في بعدها السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، والعولمة الاقتصادية الأشد تضرراً.

وسيناريو عولمة اقتصادية تعيد هيكلة الاقتصاد العالمي لصالح الصين يتزايد في عالم ما بعد #كورونا سواء كان ذلك بصراع قوى عالمي أو بتسليم أمريكي بهيمنة الصين الاقتصادية على العالم بديلاً عن اقتصاد تبادل المنفعة، وعودة طريق الحرير ليدشن مرحلة عالم ما بعد أمريكا اقتصادياً في مرحلته الأولى ثم ثقافياً واجتماعياً وعسكرياً في مراحل لاحقة والرهان الاقتصادي للصين في تحولات عميقة في العالم الرأسمالي مما يمنحها المزيد من النفوذ الذي جعلت من الاقتصاد بوابتها له؛ وتداعيات #كورونا الاقتصادية تسرع ذلك بازدياد معدلات البطالة بشكل غير مسبوع وتأثيرات ذلك على الأمن المجتمعي وتراجع معدلات الإنتاجية في العالم سيساهم بتعجيل الدور الصيني الاقتصادي في عالم ما بعد #كورونا.
فالصناعة التي تعتمد سلسة التوريد الطويلة تبدو ثقيلة على حركة الإنقاذ العالمي من #كورونا والتي ستشكل مدخلاً لتحولات سريعة، ويبدو نظام التخلص من أنظمة التخزين في هذه الحقبة الاقتصادية أضعفت قدرة الدول على الجاهزية للوباء مما سيدفع الدول للتدخل المباشر في أنظمة التخزين والإنتاج مما سيضاعف التكلفة ويؤثر ذلك على الأسعار وأنظمة التوريد، وهذا سيفتح الباب أمام مرحلة رأسمالية جديدة عالمية بتقريب سلاسل التوريد وتدخلات حماية للسوق أكبر وهذا ربما يمنح قدرة صمود أعلى للدول والمجتمعات.

تأثير المشهد الاقتصادي عميق على مستقبل الصراع على قيادة العالم نحو ثنائية قطبية ترضى بها أمريكا مستسلمة لعالم ما بعد #كورونا أو يتدحرج صراع القوة من الاقتصاد نحو السياسة والقوة الخشنة وربما بتشكيل محور جديد عالمي مناهض لأمريكا عنوانه الصين كرأس قطب في مواجهة أمريكا وقطبها الذي كان إلى وقت ما قبل #كورونا وحيد القرن وأزمة النفط المصاحبة لـ #كورونا سيكون لها قول فصل في مستقبل الاقتصاد العالمي والذي ينبئ بانهيار الإمبراطورية النفطية وأن دولاً ستدخل في سوق الرقيق بمزيد من التبعية لأسياد العالم الاقتصادي الجديد.
يعيق ذلك الإرادة الصينية والتي لم تمثل تاريخياً عنواناً لذلك فضلاً عن ثقافتها واعتمادها على النفس الطويل في التغيير ومن هنا فإن الإحلال الاقتصادي للصين ليس بالضرورة سيحمل مشهد الاحلال الثقافي والسياسي والعسكري والإعلامي حيث أن الصين عسكرياً لا تقارن بأمريكا وكذلك في مكونات وعناصر القوة الأخرى كالفضاء والتكنولوجيا ولا من حيث الانتشار الإعلامي والثقافي حيث اللغة الإنجليزية التي عدت لغة العلم والعالم.

(2)
أمريكا في مواجهة #كورونا تقف على شفير قيادتها للبشرية إما أن تثبت أقدامها وإما تهوي في وادي سحيق ولا يعني ذلك اختفاء أمريكي عاجل وإنما تدريجياً تماماً كما كانت عدوى ثلاثينيات القرن التاسع عشر الذي دشن حقبة ولادة الإمبراطورية الأمريكية.
اليوم أمريكا ومنظومتها الغربية يتزايد احساسها بالضعف في الاستجابة لعدوى #كورونا مما ولد إحساس متزايد بالتقوقع لدى دولها انكفاءً نحو قوميتها الضيقة على حساب عمقها الامبراطوري وذلك لتزايد الشعور بالخذلان تجاه خطاب ترامب الشعبوي والعنصري نحو الاحقية الامريكية في النجاة ولو على حساب موت الجميع حتى الحلفاء وهذا الخطاب الشعبوي سيعجل بدء نهاية الإمبراطورية الأمريكية حال تجديد الثقة في ترامب لدورة قادمة.
حتى أمريكا في جائحة #كورونا تفقد القدرة على حماية نفسها دون مساعدة الآخرين، ولكن غطرسة القوة تمنع أمريكا من رؤية المصلحة للآخرين في إطارها الأوسع في ظل عالم تتقاطع مصالحه في أدق تفاصيل يوميات مواطنيه ومن هنا كانت #كورونا إعلان سقوط استراتيجية ترامب 2017 القائمة على التنافسية بين قوى العالم بديلاً عن تعاونها وانعطافه حادة في زمن #كورونا في استراتيجية ترامب ستبدو هزيمة على قارعة الانتخابات المقبلة فضلاً عن صعوبات التحول الانقلابي المفاجئ وغير المخطط.
 وحتى قبل أن يجف حبر #كورونا ولم تظهر تداعياتها بعد لم يعد ينظر لأمريكا كثيراً بأنها قائد العالم خاصة مع قرارات كوقف تمويل منظمة الصحة العالمية في ظل أزمة العالم مما سمح بأن تبدو صورة أمريكا الأنانية الفاشية أكثر من رؤيتها زعيم العالم المعاصر.

التعاون الدولي الذي تهاوى على أعتاب عنصرية ترامب يحول العالم من استراتيجيات التعاون والثقة إلى مربع إدارة الأزمات والكوارث، وما زال الاتحاد الأوروبي غير قادر على تغطية عجز القيادة الامريكية وأنانيتها مما سيجعل الاتحاد الأوروبي في مهب التفكيك أو بحده الأدنى سحب النفوذ من عاصمته بروكسل لصالح العواصم الوطنية في أوروبا.
أمريكا التي كشفت #كورونا سوأتها على رؤوس الأشهاد ستخرج من الجائحة أقل هيبة وقوة لتعيش صراعاً اقتصادياً قد يتحول من مستتر إلى معلن مع الصين التي تخرج معتدة أكثر بسلوكها الصارم وانضباطها الوازن وتبدأ حملة إغاثة للعالم الغربي لتجهز موطئ قدمها مبكراً في عالم يتحول بشكل دراماتيكي في قواه الاقتصادية ووحدته السياسية.

(3)
نظام الدول أيضاً يحمل اختبار عنيف في مواجهة فيروس والتي أظهرت ضعف الدولة المستبدة الفاشلة في المواجهة من نقطة صفر وأنها غير قادرة على حماية مواطنيها، وهذا لصالح الدول التي تسودها أجواء الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ويفيد ذلك ديكتاتورية الأنانية التي جسدتها بعض الدول وعلى رأسها أمريكا.

سيشكل ذلك دافعاً إضافياً لمزيد من التقوقع والدفاع عن آخر الحصون ووجهة هذا الدفاع قد يذهب باتجاه مزيد من الاستبداد والفساد ولكنه في المقابل تأجيج متسارع لنار ثورة لن يطفئها عربدة القوة وغطرسة الاستقواء والذي قد يؤذن بانفجار سيتردد صداه في العالم للدول النامية على وجه التحديد والعربية منها بشكل أكبر من غيرها.
انتشار وشيوع الدول الفاشلة مقياسه #كورونا سيعمل على تردي العلاقات البينية مع زيادة في حدة الصراعات الخارجية للتغطية على الفشل الداخلي في المقابل تعزز قدرة بعض الدول والتي خرجت من #كورونا بكبرياء مما سيصنع فارقاً في المنظومة القيادية لكافة الدول بحيث تخلق تبايناً واضحاً في المستويات معياره ليس القدرة العسكرية وإنما السيطرة الداخلية والقدرة على مواجهة أزمة مثل #كورونا والنجاة بالحفاظ على اقتصاد داخلي متماسك وفاعل وغير خاضع للدين الخارجي مع موازنة تنموية للدولة تمنحها القدرة على إيجاد رقم لها في منظومة عالم تصرعه #كورونا
وفي المقابل ستتعزز أنظمة العمل المدني وخاصة أنظمة الصحة في مستواها العالمي أو المحلي في رغبة معلنة للبقاء في حالة جهوزية كاملة لمواجهة أي وباء قادم، وربما يتضاءل كثيراً الاعتماد على منظمة الصحة العالمية كضابط إيقاع مواجهة أي وباء قادم، أو قد يذهب الامر على النقيض باتجاه إيمان أكبر بضرورة المواجهة العالمية الموحدة لأزمة الصحة التي عنوانها #كورونا اليوم وغذاً عدم وجود لقاح له أو ظهوره بشكل واسم جديد.

 *#كورونا تصنع عالما جديدا من يملك فيه روح المبادرة وإرادة الفعل والقدرة على التكيف واستثمار نقاط قوته سيملك حضورا متزايدا في عالم لا يحترم إلا إرادة الحياة بشتى عناوينها.