السخرية مـن كورونا..الوجه الآخر للهلع .. كتب د. وليد القططي

السخرية مـن كورونا..الوجه الآخر للهلع .. كتب د. وليد القططي
السخرية مـن كورونا..الوجه الآخر للهلع .. كتب د. وليد القططي

قرأتُ في كتابٍ عن الجاسوسية بين مصر و(إسرائيل)- لا يحضرني عنوانه- يتناول قصص تجسس متبادلة بين الطرفين، ومن تلك القصص قصة جاسوس جنده الموساد في مصر ليقوم بمهمة غريبة غير اعتيادية، وهي جمع النُكات المصرية وإرسالها إلى مشغلهِ في الموساد الإسرائيلي، وهذه المهمة تتطلب منه الجلوس على المقاهي الشعبية والاستماع للنكات وتسجيلها ومن ثم إرسالها للعدو. هذا الجاسوس لم يُدرك أهمية وخطورة المهمة المُكلّف بها، ولكن الموساد وأصحاب القرار في (إسرائيل) كانوا بالطبع يدركون أهميتها وخطورتها في الإسهام بمعرفة المزاج الشعبي المصري واتجاهات الرأي العام في مصر لا سيما بعد النكسة عام 1967. ففي تلك الفترة الزمنية بعد هزيمة يونيو حزيران اجتاحت مصر موجة من النُكات السياسية الساخرة موضوعها الجيش المصري وبالتحديد الضباط، تُعبّر عن فقدان ثقة الشعب بجيشه وقواته المسلحة وضباطه المُقاتلين؛ مما أثر سلبياً على معنويات الجيش المصري أثناء حرب الاستنزاف، وفي خضم إعادة بناء الجيش استعداداً لحرب تتجاوز الهزيمة، وقد أدرك ذلك الرئيس جمال عبدالناصر، فخرج إلى الشعب بخطاب طالب فيه وقف موجة النُكات الساخرة من الجيش المصري، مُعلّلاً مطالبته بتأثيرها السيء على الروح المعنوية للجيش، ومساسها بكرامة الشعب، وترسيخها لليأس والاستسلام في مصر.

النكتة السياسية الساخرة تُعتبر مقياساً للمزاج الشعبي والرأي العام في أي بلد، وتؤدي وظائف عديدة أهمها: أنها وسيلة الشعوب المقهورة في أنظمة الحكم الشمولية المستبدة للتعبير عن رفضها لواقعها السيء، واحتجاجها على حالها البائس، وهي بمثابة الترمومتر لمنسوب القهر والاستبداد والفساد، فكلما ارتفع منسوبه زاد انتشارها والعكس صحيح. والنكتة الساخرة وسيلة للتخفيف من مرارة الواقع السيء المليء بالفقر والعجز والظلم بإضفاء طابع هزلي عليه هروباً من مأساة الواقع إلى هزلية الضحك، كما عبّر عن ذلك المتنبي " لا تحسبنّ رقصي بينكم طرباً .. فالطير يرقص مذبوحاً من شدة الألمِ". وقد تكون بمثابة حيلة دفاعية للتنفيس عن مخزون الغضب والسخط الشعبي، وتفريغ تراكم الرفض والاحتجاج الجماهيري، وهذا رأي رائد مدرسة التحليل النفسي فرويد في كتابه (النكتة وعلاقتها باللاوعي) حيث اعتبر النكتة السياسية نافذة تنفيس ووسيلة تفريغ للشحنات الانفعالية المخزونة وضغوطات الحياة المكبوتة.

وفي الحالة الفلسطينية برزت النكتة السياسية الساخرة بعد تشكيل السلطة الفلسطينية وازدادت بعد الانقسام، ووجدت متنفساً لها مؤخراً في منصات التواصل الالكتروني، وكانت تعلو موجاتها عقب كل جولة مفاوضات للمصالحة الفلسطينية مُعبّرةً عن المزاج الشعبي الغاضب والرأي العام الساخط، بسبب تكرار الفشل في تحقيق المصالحة، واستمرار حالة العجز السياسي في إدارة الصراع مع العدو، وإدارة الخلاف بين أنفسنا، واستمرار الفقر والبطالة وارتفاع الضرائب والفساد. وهناك جانب آخر ايجابي لتفريغ الشحنات الانفعالية، فليس دائماً تكون غاضبة وساخطة، فقد تكون مُعبّرة عن الفرح والرضا، ومن أمثلتها موجة النُكات التي تناولت عملية أسر المقاومة للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ومن بعده شاؤول آرون وتطرقت لحياتهما في الأسر الفلسطيني، فسواء كانت النُكات الساخرة تُعبّر عن السخط أو الفرح فقد ولدت من رحم المعاناة الفلسطينية ومن عمق المأساة الوطنية.

وموجة النُكات الساخرة الحالية على وباء كورونا التي انتشرت في فلسطين والبلدان العربية والعالمية من على منصات التواصل الالكتروني تأتي في هذا السياق، وهي في ظاهرة وباء كورونا أقرب لأن تكون وسيلة دفاعية لمواجهة مواقف الخوف والهلع، أو للتنفيس عن حالة الخوف والهلع، والتخفيف من القلق والتوتر وعدم الاطمئنان بالسخرية، ولتحقيق ذلك يلجأ الانسان إلى استخدام آلية (الإنكار) كأحد آليات الدفاع النفسية اللاشعورية، التي يُنكر فيها الانسان الواقع الذي يُشكل خطراً عليه، ليتجنب الحقيقة غير المريحة، ويستبدلها بوهم مُريح له، فيُقلل من خطر الوباء الفعلي بنكات ساخرة تُضفي طابعاً هزلياً على خطرٍ جدي تُخفف من حالة الخوف والهلع. وقد تكون قريبة من حيلة لا شعورية أُخرى هي (التكوين العكسي)، وفيها يلجأ الانسان إلى عكس الواقع المُطلق المُخيف المُسبب للخوف والهلع، فيقمع ما يُسبب الدافع المُثير للقلق والخوف، ويُسرف في اللامبالاة والسخرية لمواجهة واقع مقلق ومخيف ومُسبب للتوتر والهلع ليستريح مؤقتاً. وفي إطار هذه الرؤية للسخرية من كورونا، فُيمكن القول أنها الوجه الآخر للخوف والهلع.

في الختام إذا كانت السخرية من كورونا هي الوجه الآخر المُزيّف للخوف والهلع منها، فإن الجدّية في التعامل مع وباء كورونا هي الوجه الأول الحقيقي الذي يواجه الخوف والهلع من الوباء الفتّاك، والجدّية في التعامل مع الوباء تقتضي المواجهة العلمية والمعالجة العملية للوباء، والأخذ بالعزيمة والأسباب، ثم التوكل على الله تعالى والتضرع إليه بالدعاء، وتركيز الجهود الوطنية الرسمية والشعبية لتجاوز خطر الوباء، وهذا يتطلّب منّا جميعاً شحذ الهمم، وتقوية العزائم، وتعزيز نقاط القوة، وعلاج نقاط الضعف، والبحث عن الجوانب المضيئة في أنفسنا ومجتمعنا لتوسيعها، واكتشاف الجوانب المعتمة لإضاءتها، والبحث عن كل شيء جميل في حياتنا حتى في السخرية لتكون وسيلة تنفيس وتفريغ وتطهير وترفيه وتوعية وتصويب للمسار.