رحيل المربي الكبير/ محمد حامد الجدي بقلم/ نعمان فيصل

رحيل المربي الكبير/ محمد حامد الجدي   بقلم/ نعمان فيصل
رحيل المربي الكبير/ محمد حامد الجدي بقلم/ نعمان فيصل

رحيل المربي الكبير/ محمد حامد الجدي

أحد أبرز رواد النهضة التعليمية في فلسطين

بقلم/ نعمان فيصل

ترجل عن جواده فارس من فرسان الكلمة والثقافة والتربية والتعليم الأستاذ/ محمد حامد الجدي (أبو ماجد)، الذي كان نبراساً مضيئاً في مسيرة التعليم في قطاع غزة، وقامةً عاليةً من قامات الوطن، بنى كثيراً من الأجيال على أسس من العزة والكرامة، وكان له الفضل في تطوير أساليب التعليم من خلال المتابعة اليومية المتتالية لجميع دوائر التربية والتعليم، بصفته كان مديراً للتعليم بقطاع غزة في عهد الاحتلال الإسرائيلي، وكان متألقاً ومتابعاً لعمله بدقة وحيادية، ولم يتعرض يوماً لنقد سيء، بل كان دائماً هادياً إلى طريق النجاح والتطور والإبداع العلمي في جميع مراحل التعليم.

وقد شغل هذا الفارس الشجاع مناصب عدة في مجال التعليم، حتى استحق بجدارة أن يعلو إلى قمة الهرم الوظيفي في زمنه بسعيه وجده واجتهاده الذي اشتهر به في الأوساط التربوية في القطاع، وكان قد ترقى في السلم التعليمي ابتداء من العمل معلماً للغة العربية، وحتى وصل إلى أرقى المناصب الإدارية.

نعمان والجدي3.jpg
 

وساهم المرحوم الأستاذ محمد الجدي في تطوير مهنة التعليم وإعادة الاعتبار للمعلمين الذين كان لهم دور كبير في إنهاض الوطن الجريح من كبوته، وقد عرف ما للتعليم من قيمة في ترقية حياة المواطنين وتهذيب الشباب؛ كي يؤهلهم ذلك إلى خدمة قضيتهم المصيرية، وتخرج على يديه كثير من هؤلاء الروَّاد في جميع المجالات.

كانت لي معه تجارب كثيرة وغنية لا ينتهي سردها، حيث شاركني أفراحي وأتراحي جميعها، وخاصة احتفال وزارة الثقافة في 8 نيسان/ أبريل 2010م بمناسبة صدور كتابي الأول: (أعلام من جيل الروَّاد من غزة هاشم)، وألقى كلمة مؤثرة في الاحتفال، وسجل فيهما بحروف النور وعبارات الخلود أبلغ المعاني وأسمى القيم، كما شاركني احتفال مناقشة رسالة الماجستير عام 2012م، وغيرها من المناسبات.

نعمان والجدي2.jpg
 

وهناك الكثير من المواقف والقصص الغنية معه، والتي سيتناولها كتابي القادم: (ظلال السنين: تأملات في السيرة والمسيرة)، والذي سيصدر قريباً بمشيئة الله تعالى.

وكان لي شرف الكتابة والترجمة عن الأستاذ محمد حامد الجدي (أبو ماجد)، والإشادة بدوره في كتابي: (أعلام من جيل الروَّاد من غزة هاشم)، الذي صدر عام 2010م، حيث قلت عنه:

 

إن قيمة أي شعب من شعوب هذه الأرض، تقاس بمقدار ما قدم أبناؤه ويقدمون للبشرية من أعمال خلاَّقة في مجالات الفكر والثقافة، هذه المجالات التي تعتبر الأداة الرئيسية الفاعلة في سبيل التوعية والإرشاد، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، لا سبيل إلى إنكارها. وبفضل هذا المبدأ، تصدر البعض قائمة الشعوب التي حملت لواء الحضارة وعلى مدى عصور طويلة، ومن هنا يصبح الكتابة عن أعلامنا، والإشادة بدورهم أمراً ضرورياً، بل ربما يكون أبعد من ذلك بحيث تصبح واجباً وطنياً وربما قومياً... كان في طليعة الرواد حيث وجد في حقل التربية والتعليم مجالاً لثورته على الجمود، وأداة فعالة في سبيل تحقيق إصلاح شامل متكامل في الاتجاهات العلمية، والتربوية، والسياسية، والاجتماعية.. ليصار إلى مماشاة الركب الحضاري الوطني، فتتحقق لبلدنا النهضة الفعلية التي هي بحاجة إليها.

نعمان والجدي4.jpg
 

ولد الأستاذ محمد الجدي في مدينة غزة عام 1936، وتلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي (حيث لم تكن في سلم التعليم مرحلة إعدادية) عام 1955، ثم حصل على الثانوية العامة من مدرسة فلسطين الثانوية (وكانت المدرسة الوحيدة في مدينة غزة وقتذاك). بدأ حياته العملية (بعد التخرج مباشرة) عام 1955 مدرساً لمادة اللغة العربية والإنجليزية في مدرسة الشجاعية الإعدادية الأميرية (حطين حالياً)، وبعد جلاء اليهود عن غزة عام 1957 على إثر العدوان الثلاثي نُقل مدرساً في مدرسة اليرموك الإعدادية خلال الأعوام (1957-1965)، وكانت تلك الفترة أغزر سنوات عمله في التدريس، وفيها تعرف على الكثير من شخصيات غزة ومدرسِّيها وطلابها الذين بادلوه حباً ومودة، وفي عام 1961 انتسب لجامعة القاهرة، وحصل على ليسانس اللغة العربية عام 1965 بتقدير جيد جداً مع درجة الشرف، وعلى إثرها نقل مدرساً إلى مدرسة فلسطين الثانوية التي كان ناظرها في ذلك الوقت الأستاذ سامي أبو شعبان الذي عُرف بوطنيته الواضحة وفلسطينيته المشهودة، وعمل الأستاذ محمد في هذه المدرسة مع نخبة ممتازة من رجال البعثة المصرية في مختلف المواد الدراسية، وقد أصر الأستاذ سامي أبو شعبان أن يكون أستاذنا ضمن مجموعة المدرسين لتعليم الصف الثالث الثانوي لمدة عامين، مما كان عاملاً مهماً لشباب المعلمين الفلسطينيين أن يسدوا الفراغ التدريسي؛ الذي نجم عن رحيل رجال البعثة المصرية بعد نكبة حزيران عام 1967، حيث وقع الاختيار عليه ليكون مفتشاً للغة العربية والدين للمرحلة الثانوية، إذ كان عدد مفتشي التربية والتعليم في ذلك الحين ستة فقط، وبانضمامه إليهم أصبح عددهم سبعة مفتشين، وعلى أثر تغيير أسلوب التفتيش، وتقسيم قطاع غزة إلى أربعة مناطق تعليمية في عام 1974 وقع الاختيار عليه ليكون مفتشاً لمنطقة غرب غزة ودور المعلمين، وفي صيف عام 1975 ترقى إلى نائب فني لمدير التعليم والثقافة – مسؤولاً عن النواحي الفنية والتربوية والإشراف على التعيينات - وفي صيف عام 1978 عُين مديراً للتعليم والثقافة في قطاع غزة خلفاً للأستاذ رامز فاخرة الذي أُحيل إلى المعاش.

واجه أستاذنا كما واجه مَنْ سبقوه في إدارة هذا الجهاز الحيوي والهام في حياتنا صعوبات جمة خلال توليه هذا المنصب من حيث: غياب الكتاب المدرسي، وتضييق المحتل على مرفق التعليم ومحاولته الدائمة تهويد المناهج الدراسية آنذاك، وقلة المدرسين الموجودين، وتدني أجورهم، وقلة انفتاح أبواب الجامعات أمام الطلاب الفلسطينيين لاسيما أن معظم الفترة التي عمل فيها مديراً عاماً للتعليم كانت حافلة بمشاكل الانتفاضة الأولى (1987)، وما تخلّلها من اعتقالات وإبعاد وفصل لمدرسين، وحرمان طلاب من الدراسة... كل هذه العوامل كان عليه أن يواجهها بعقل وحكمة، واستطاع التغلب عليها واجتيازها من خلال تجربته الإدارية الطويلة وبالصبر تارة، والحيلة تارة أخرى، ونجح في النهوض بمرفق التعليم طيلة 17 عاماً دراسياً من عام (1978-1994) بحس وطني عالٍ، وانتماء حقيقي لبلده. واستثمر علاقاته الطيبة مع مدراء وكالة الغوث للاجئين (الأونروا) على تذليل معظم العقبات التي كانت تواجه الأونروا والمدارس الحكومية العامة، وعمل على زيادة عدد المدارس بما يواجه الأعداد المتزايدة سنوياً من الطلاب الذين كانت زيادتهم لا تقل عن (3,000 طالب) سنوياً حيث بلغ مجموع المدارس التي شُيّدت في عهده (35 مدرسة)، وكانت أول مدرسة أقيمت هي مدرسة الشجاعية الثانوية للبنات بحي الشجاعية عام 1973 في زمن بشير الريس، جاءت بعدها مدرسة بشير الريس عام 1978 في زمن رامز فاخرة فعمل جاهداً على تسمية أكبر مدرسة ثانوية للبنات في حي النصر، باسم مدرسة رامز فاخرة.

في عام 1980 عمل جاهداً على إدارة امتحان الثانوية العامة تحت إشراف بعثة مصرية – (تأتي سنوياً من مصر وتُشرف على هذا الامتحان) – بعد أن قطعت إسرائيل الصلة باليونسكو، وأرادت أن يكون اتصالها مباشرة مع مصر.

نعمان والجدي.jpg
 

وقد بلغ الأمر أشده في فترة الانتفاضة (1987) فكان عليه تهيئة امتحانات الطلاب داخل السجون الإسرائيلية، والطلاب المعتقلون الذين يخرجون من المعتقلات قبل امتحانهم بأيام قليلة، وتفشت ظاهرة التسيب وعدم انضباط الإمتحانات، حيث استعان بأولياء الأمور، وشكل منهم ما عُرف (بلجان المؤازرة الشعبية) التي تحولت في حقيقة الأمر إلى لجان فصائلية، وكان يدب فيها أحياناً الخلاف الذي كان يجني منه الأشواك لكن بإدارته الحكيمة في المواقف الصعبة اجتاز هذه المرحلة بالغة الخطورة بكل نجاح وتفوق؛ الأمر الذي دعا مراسل مجلة (نيوزويك) الأمريكية الذي زاره في مكتبه في مطلع ديسمبر عام 1988 للإطلاع على وضع التعليم في الذكرى الثانية لإنتفاضة شعبنا المجيدة الذي تعجب كثيراً من قدرة هذا الرجل على الصمود في ظل هذه الظروف القاهرة، وإصراره على المضي قدماً بمسيرة التعليم إلى بر الأمان، فما كان من مراسل المجلة الأجنبي إلا أن أطلق على تلك الفترة التي يقودها باسم (العصر الحجري الجديد).

منذ أن أغلقت الجامعات المصرية أبوابها أمام الطلاب الفلسطينيين عام 1977، أصبحت الحاجة ماسة وملحة لإنشاء جامعة في غزة. ففي عام 1978 دعاه الشيخ: محمد عواد المؤسس الفعلي للتعليم العالي في قطاع غزة مع 22 شخصية من شرائح المجتمع العديدة في قطاع غزة لتشكيل أول مجلس أمناء انطلق بنشأة الجامعة الإسلامية، وتركز هذا العدد في ستة أشخاص كان هو من بينهم أميناً لسر هذا المجلس خلال الأعوام (1978-1991)، واستطاع من خلال موقعه كمدير للتعليم أن يذلل كثيراً من الصعاب التي كانت تواجهها الجامعة من أبرزها "أن شهادة الجامعة الإسلامية، لم يكن يُعترف بها مدة تزيد عن 15 عاماً منذ نشأتها، وكان الخريج منها يعتبر حاملاً للثانوية العامة، ولا يُعتد بشهادته، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي قامت بها الجامعة ورؤساؤها ومجلس أمنائها، إلا أن إرادة الله تشاء على يدي هذا الرجل بصفة خاصة من خلال علاقاته الطيبة مع المسؤولين في السلطة الوطنية للاعتراف بالجامعة الإسلامية جامعة رسمية كباقي الجامعات الفلسطينية العتيدة "، ومثَّل الجامعة في كثير من الوفود التي جابت العالم للنهوض بالجامعة من حيث التمويل، والتجهيزات.. ومما يذكر بالفخر والاعتزاز أن لمجلس الأمناء الأول (المؤسس) دوراً رئيساً في الحفاظ على استقلالية الجامعة، ومنحها الثقة والصلاحيات الكاملة لإدارتها طيلة تلك السنوات.

صدر أمر منظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء جامعة أخرى بجوار الجامعة الإسلامية هي: (جامعة الأزهر) قام هذا الرجل مع الشيخ محمد عواد، أيضاً بدور مخلص في العمل على وضع الترتيبات اللازمة لإنشاء هذه الجامعة التي بدأت من الصفر، وهي اليوم تصل إلى درجة تدعو إلى الإعتزاز والفخر، وسيسجل التاريخ لهما ذلك بأحرف من نور مع باقي زملائه في مجلس الأمناء.   

كما كان له أيضاً دور رئيسي في إقامة اللبنة الأولى لجامعة الأقصى حين استطاع تغيير دار المعلمين والمعلمات عام 1991 إلى أول كلية تربية حكومية تمنح البكالوريوس بعد أربع سنوات.

ومن خلال هذا المشوار، فقد كان ضمن الهيئة الإدارية لمعهد الأمل للأيتام بغزة خلال الأعوام (1978-2007) حيث استثمر وظيفته (كمدير للتعليم) في قبول الطلبة اليتامى في المدارس الحكومية، وبحكم وظيفته أيضاً كان أحد الأعضاء الذين يمنحون مهنة المحاماة، ولجنة محاسب قانوني خلال فترة عمله.

كما ساهم في تأسيس مدرسة الموهوبين النموذجية في عام 1994، وكان عضواً في مجلس إدارتها حتى عام 2008. ولقناعته أن بلدنا تفتقر إلى التعليم الخاص كرديف ومكمل للتعليم العام شجع على قيام ونمو التعليم الخاص في غزة مثل: كلية غزة، مدرسة النصر الإسلامية النموذجية، مدرسة دير اللاتين، ومدرسة الزيتون الخاصة..

في عام 1995 بعد عودة السلطة الوطنية شارك في إعداد المناهج التعليمية لمادة (اللغة العربية)، وكان ينتقل من أجل ذلك بين القدس، رام الله، بيرزيت، وغزة باستمرار. شارك في مؤتمرات عديدة كان أشهرها موضوع (معالجة التسرب الطلابي وموضوع التطلعات إلى تعليم مثالي استفادة من الحاضر والماضي) التي كان يعقدها مركز الدراسات والتطبيقات التربوية (CARE) في القدس عام 1994.

أُحيل للتقاعد في 13/12/1995 من وظيفته، لكنه لم يخلد إلى الراحة والسكون، واستمر في العمل والعطاء في شتى الميادين.. يعتبر من المؤسسين لجمعية الموظفين المتقاعدين عام 1995، وخلال الأعوام (2005-2008) تولى رئاسة مجلس إدارتها، وشارك في كثير من إنجازاتها وأعمالها ومقرراتها، وأبرز ما أنجزه في هذه الفترة السعي الجاد في زيادة رواتب المتقاعدين أسوة بإخوانهم الموظفين العاملين، وتطبيق سلم الرواتب على المتقاعدين أسوة بالعاملين، وحفظ حق الأرملة والورثة للمتقاعد كما كان عليه الحال مع المورث المتقاعد في حال حياته، والعمل على دعم الجمعية مادياً ومعنوياً... وفي آذار عام 2008 أصدر الرئيس محمود عباس قراراً رئاسياً بتعيينه عضواً في مجلس إدارة صندوق المتقاعد الفلسطيني.

شغل مدير تحرير مجلة نور اليقين خلال الأعوام (1995-2000) وكتب مقالات عديدة في المجلة كان أشهرها (من ذكريات السنين القاسية..) و(مواقف ودروس.. زرع وحصاد ووفاء).

أصدر في نوفمبر 2008 كتاباً بعنوان: (فصول من تاريخ التعليم في قطاع غزة)، يتناول فيه تاريخ التعليم في النصف الثاني من القرن العشرين، يحكي فيه أحداث التعليم منذ عهد الإدارة المصرية مروراً بفترة الاحتلال الإسرائيلي، وانتهاء بعام 2000 بما يشمل ذلك من آمال وآلام، وصعاب ومشقات، وجامعات ومناهج، وإدارة مدرسية.. كي يضع الأجيال الطالعة على صفحات مشرقة وأخرى صعبة من نماذج الكفاح الفلسطيني، والتمسك بأطراف الحياة، ومواكبة العصر بالرغم من كل الأهوال، وهو كتاب أقرب للسرد التاريخي (الوقائعي) المبني على التجربة الذاتية، وما يسمى اليوم بشاهد على العصر.

وفي سبتمبر 2016م أصدر الأستاذ "محمد الجدي" الجزء الثاني من كتابه آنف الذكر، وفي مارس 2015م قام بجمع ديوان الأستاذ رامز فاخرة (متى تلتئم الجراح؟)، وتحليله ونشره.

وأخيراً، توفي المربي الكبير الأستاذ محمد حامد الجدي (أبو ماجد) إلى رحمة الله تعالى مساء يوم الإثنين الموافق 30 كانون الأول/ ديسمبر 2019م.

رحم الله الفقيد، وأسكنه جنان النعيم.

نعمان والجدي5.jpg