تركيا بين النموذج والواقع بقلم د. وحيد عبد المجيد

تركيا بين النموذج والواقع  بقلم د. وحيد عبد المجيد
تركيا بين النموذج والواقع بقلم د. وحيد عبد المجيد

تركيا بين النموذج والواقع  بقلم د. وحيد عبد المجيد

 

من الطبيعي أن يحدث خلاف على تشخيص طبيعة الأزمة التركية، التي فجرتها الاحتجاجات الشعبية التي بدأت باعتراض على قرار تحويل موقع عريق إلى مركز تجاري. ومن المنطقي أن يرتبط تقدير حجم هذه الأزمة وتصور آفاقها المستقبلية باختلاف زاوية النظر إليها. غير أن الخلاف لا يصح أن يشمل علاقة هذه الاحتجاجات بالسياق الذي تجري فيه الأحداث في عدد من دول المنطقة منذ نهاية عام 2010 عندما دشّن شباب تونس «عصر الجماهير» في العالم العربي.

وإذا كانت الاحتجاجات في المنطقة ظلت عربية على مدى أكثر من عامين، حيث امتدت من تونس إلى مصر في يناير 2011، ثم إلى ليبيا واليمن في فبراير، وإلى سوريا في مارس، فلا ننسى أن بدايتها كانت في إيران. فقد اندلعت احتجاجات شعبية واسعة في النصف الثاني من عام 2009 احتجاجاً على ما اعتبره أنصار المرشح الإصلاحي موسوي تزويراً لنتائج الانتخابات الرئاسية لمصلحة نجاد.

ورغم إخماد الاحتجاجات الإيرانية بالقوة، فقد بقيت رمزيتها مستمرة، كما ساهمت تلك الأساليب الجديدة التي ابتكرها محتجون إيرانيون في رفع وعي طلائع شبابية في عدد من الدول العربية وتزويدهم بخبرة ميدانية مهمة.

لذلك كان منطقياً أن تساهم الاحتجاجات الإيرانية في تحريك المياه الراكدة في المنطقة، مثلما يبدو طبيعياً أن تفتح الانتفاضات العربية آفاقاً جديدة أمام بعض الشباب التركي وتزوده بخبرة جديدة في كيفية تنظيم الاحتجاج في الميادين والشوارع. فليس «ميدان تقسيم» إلا امتداداً للميادين التي شهدت احتجاجات حملت في النهاية أحزاباً وجماعات تدعي ارتباطاً بما يسمى «النموذج التركي» إلى السلطة في البلاد العربية.

ولذلك لم تكن الاحتجاجات التركية مفاجئة رغم النجاح الذي حققته حكومة «حزب العدالة والتنمية» على المستوى الاقتصادي. لكن المفاجئ هو أن رئيس هذه الحكومة لم يستوعب دروس الانتفاضات العربية، الأمر الذي يثير سؤالا محورياً عن هذا النوع من الحكام الذين لا يقيمون وزناً لما يحدث حولهم. فقد أسرف أردوجان في التنديد برؤساء عرب اندلعت احتجاجات ضدهم، لكنه تصرف بطريقة لا تختلف جوهرياً عما فعلوه ويفعله معظم من حلوا محلهم حتى الآن، حين استهان بالمتظاهرين وتعامل معهم بقسوة.

غير أنه ربما يكون أردوجان أفضل حظاً منهم لأن في حزبه من يدرك أن الأغلبية لا تملك الحق في مصادرة حقوق الأقلية، ويسعى إلى حل الأزمة على هذا الأساس.

فقد تباينت ردود فعل قادة هذا الحزب على الاحتجاجات الشعبية. وتصرف رئيس الجمهورية عبد الله جول بطريقة مختلفة عن رئيس الحكومة أردوجان، عندما أبدى تفهماً لمطالب المحتجين وحرصاً على الحوار والتفاهم.

وبينما أطلق أردوجان قوات الشرطة عليهم واعتبرهم رعاعاً ومتآمرين وما إلى ذلك مما يتضمنه قاموس الاستقواء السياسي، قال جول إن رسالتهم وصلت وحاول إقناع رئيس الوزراء بعدم التعالي عليهم، كما بدا نائب رئيس الحكومة بولنت أرينش مع المحتجين بشكل ديمقراطي، وعقد لقاءً مع من يعبرون عن مواقفهم بشكل أو بآخر، في غياب قيادة واحدة تمثلهم بسبب تنوعهم الشديد وعدم انتماء معظمهم إلى أحزاب أو منظمات سياسية يمكن التفاوض معها.

لكن الفرق بين أردوجان وجول لا يقتصر على أسلوب التعامل مع الاحتجاجات والمحتجين. فما هذا الفرق إلا نتيجة إدراك جول معنى الديمقراطية الذي لا يعرفه أردوجان. فقد عبّر جول بطريقته المنفتحة عن المفهوم الصحيح للديمقراطية الذي يقوم على أنها ليست مجرد أرقام، ويرفض اختزالها في صناديق، ويدرك أن الأغلبية التي تتغير بالضرورة من وقت إلى آخر لا تملك مصادرة حق الأقلية.

ولذلك سعى جول إلى تصحيح المعنى السطحي للديمقراطية الذي عبّر عنه أردوجان عندما دعا «ناخبيه» إلى تلقين المحتجين درساً في الانتخابات المحلية العام القادم، وكأن هؤلاء «روبوتات» لا يفكرون ولا يقيّمون ولا يتغيرون ولا يغيرون.

فليس في الديمقراطية تفويض كامل أو مطلق يحصل عليه صاحب الأغلبية حتى وإن نال تأييد 90 في المئة. فالتفويض الانتخابي في كل الأحوال محدد ومؤقت، ولا يجيز لمن يحصل عليه أن يفعل ما يشاء منفرداً.

وعندما يكون في حزب حاكم قياديان كبيران أحدهما توافقي والثاني متسلط، يكون في اختلافهما رحمة لبلدهما وشعبهما. وحتى إذا لم يتمكن الأكثر حرصاً على التوافق من حل الأزمات بما يحقق المصلحة الوطنية، فربما يستطيع تقليل الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ولا يخلو هذا الفرق بين موقفي جول وأردوجان من دلالة مهمة ينبغي أن ينتبه إليها من يجدون في «النموذج التركي» ما قد يفيد بلادهم، وأن يدركوا واقعه قبل أن يتخذوه مثالاً. وفي هذا النموذج بالفعل ما يمكن أن يفيد، لكن بعيداً عن ديكتاتورية الأغلبية وبمنأى عن القيود الهائلة المفروضة على الحق في التعبير عن الرأي. فتقييد هذا الحق هو أسوأ ما في تركيا اليوم على الإطلاق. ولم نكن بحاجة إلى التقرير الأخير للجنة الدولية لحماية الصحفيين لنعرف ذلك. لكن هذا التقرير كشف أن وضع الصحفيين في تركيا صار أسوأ مما كنا نعتقد، وأن هذه الدولة الناهضة في كثير من المجالات، صارت بين الدول الخمس الأسوأ في العالم من حيث سجن أصحاب الرأي.

ولذلك فإذا كان هناك من يرغب في استلهام شيء من «النموذج التركي»، لا يصح أن يكون تقييد الحق في التعبير وملاحقة أصحاب الرأي بالبلاغات والدعاوى هو كل ما يقتدي به على النحو الذي يحدث في مصر وتونس مثلا الآن. فبالإمكان الاستفادة من تجربة «حزب العدالة والتنمية» في تشكيل حكومات ناجحة وقادرة على إدارة البلاد وتطوير قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية وحل المشاكل الأساسية. فقد حققت تركيا إنجازاً في مضاعفة مستوى دخل الفرد فيها نحو خمس مرات خلال عشر سنوات، وخفض نسبة الأمية إلى ما دون العشرة في المائة. وهذا ما ينبغي الاستفادة منه وفق ظروف كل بلد بالطبع، وليس استبداد الأغلبية وتقييد حرية التعبير وإصدار قوانين تصادرها. ولا ينبغي أن يغيب عنا، ونحن نتأمل «النموذج التركي»، أن تدهور سجله في مجال حرية التعبير ازداد وبلغ أقصى مدى بعد أن حقق الطفرة الأساسية التي ما كان له أن ينجزها لو أنها بدأ بتقييد هذه الحرية.