محمد عساف..مع سبق الإصرار-- بقلم : عدلى صادق

محمد عساف..مع سبق الإصرار-- بقلم : عدلى صادق
محمد عساف..مع سبق الإصرار-- بقلم : عدلى صادق

في العام 2001 كان الفنان الفلسطيني جمال النجار، ضيفاً على شاشة تلفزيون فلسطين، في برنامج حواري على الهواء. اتصل فتى لم يُكمل من العمر سوى تسعة أعوام ونصف العام، وطلب الحديث الى الضيف. ولما كان له ذلك، سرعان ما طلب من الفنان النجار، إسماع صوته، قائلاً في تقديمه لنفسه، إنه محمد عساف، من خان يونس، يحب الغناء وصوته جميل. كان الطفل يأمل في أن يغني مع جمال النجار وفي موازاته، الى أن يشب صوته عن الطوق. وجمال، بطبعه، مسكونٌ بحماسة حارة، لقديم الفن الغنائي الفلسطيني وجديده، ويرى أن فلسطين بحاجة الى مشروع فني غنائي، يواكب خطابها السياسي ونضال أجيالها. وفي تلك المناسبة، أعجب الكبير بصوت الصغير!
كانت الشاعرة البديعة كفاح الغصين، جاهزة دائماً لأن تزود جمال النجار، بنصوص الأغنيات الوطنية. وجمال، وقتئذٍ، يعمل في إدارة العمل الجماهيري، ضمن هيئة التوجيه الوطني. من بين مهماته، اختيار أصوات صغيرة واعدة، لكي تؤدي الأغنيات التعبوية، في مراكز الأطفال ومخيماتهم الصيفية، وقدم عساف على ذلك الصعيد "يسلم صوتك يا الفتى". وما هي إلا أيام، حتى أتيح للصغير أن يشهد انتاج أغنية للشهداء مرموزاً اليهم بالطفل الشهيد فارس عودة: "يا هودج العرسان، إمش على هفوفك". غناها جمال ورددها معه محمد عساف، بصوت شجي يغالب طفولته ويعلو عليها. ودأب الطفل، الذي كانَهُ عساف، على مواكبة جمال. يلون الصغير أداء الكبير، في حفلات كانت أيقونتها تلك الأغنية الصرخة:"شدي حيلك يا بلد" التي كتبتها كفاح الغصين، فيما هي تتمثل تلقائية الفلسطينيين، في طبائع لغتهم عندما يشدون أزر بعضهم بعضاً.


بعد سنة كاملة، من حضور الطفل محمد عساف في حقل الأغنية، كمساعد مطرب، يضاهي معلمه في القدرة على الإمتاع، بخليط من المفارقة بين قوة الصوت وصغر السن، مع ذكاء وأريحية ورباطة جأش، وإصرار على شق الطريق في هذا الميدان؛ اعتزم جمال أن يتيح للفتى أن يؤدي أغنية خاصة تحمل اسمه وتكون له. وشاءت المصادفات، أن يكون العمل الأول لعساف، أغنية سردية تنقسم الى جزئين بينهما أحداث الحلقة اليومية لمسلسل "لعبة الأيام" الذي انتجه تلفزيون فلسطين. وتفوقت الأغنية بصوت الصغير، على المسلسل نفسه، وكان ذلك هو الأداء الأول الخاص لعساف، الذي كرّس فيه نفسه، كمطرب فلسطيني واعد. ولم يقطع ذلك الأداء، رحلة عساف مع النجار. أبدع الأول، وهو يغني في موازاة الثاني، أغنية جديدة، كتبها صديقنا الفنان الشعبي مُثنى الجلماوي:"يا وطنّا واحنا اصحابه، يا عدوي اللي ما نهابُه". وبعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، كتب بشير الراعي، الشاعر الفلسطيني المقيم في الإمارات:"مبروك النصر مع التحرير، بصوت الشعب وكل الجماهير". تلك الأغنية أداها محمد عساف، مع فتاة صغيرة ذات صوت عذب، هي شقيقته نيفين، وقد أدياها مصورة، عبر شاشة تلفزيون فلسطين. ففي منـزل عساف، يرعى الوالدان موهبة ابنهم، ويقدرون الفن كأقدم شكل في التاريخ، من أشكال الوعي الاجتماعي. وما أحوج الفلسطينيين الى التعبير عن لواعج قلوبهم، وعن رفد وعيهم الجمعي بحقائق تاريخهم وقضيتهم!


مجموعة من الأغاني، ظهرت في مرحلة صعبة من تأثر الحركة الوطنية و"فتح" تحديداً، سلباً، بمساوئ سلطويين لا يتمثلون روح الكفاح الوطني المعاصر، ومشاويره، وعطاءات الأجيال والشهداء. كان لا بد من "خذني معاك على بيت حانون" احتفاء بالبلدة التي كانت مكسر عصا قوات الاحتلال، و"علّي الكوفيّة" طلباً للاستنهاض. وفي تلك الأغنية، الأخيرة، وللاستفادة، بالتنويع، من صوت عساف، أزال جمال النجار غُصن صوته (الصولو) من الأغنية، وأدخل مكانه صوت محمد عساف، لكي تتواصل مفارقة صوت الصغير وقوته، فتفعل فعلها مع مجموعة الأداء الصوتي المصاحب (الكورال).
وقع الحسم فتعطلت الأغنيات، واختزن عساف صوته، فيما هو ينضج ويترعرع كشاب حالم وطموح. حطمت الانكشارية عود جمال النجار ورمت ريشة العود سلطان الآلات وجالب المسرات، وأبطلت صوت عساف إلا من انسلال للغناء، بألحان مستعادة، في أماكن مغلقة. وعندما سنحت الفرصة، لم تقصر الحركة الوطنية مع ابنها عساف الملتصق بالأرض التي جعلها مسرح أدائه. عُرضت عليه منحة للدراسة، فأبى أن يغادر الأرض والحُلم قبل التهيؤ للخروج الى فضاء أرحب. وعُرض عليه الالتحاق بمعهد الموسيقى في القاهرة، فرفض الخروج مكتفياً بسياق التأهل في كلية الحياة اليومية ونبض الناس والسليقة الفنية الفردية. وهنا، لا أود الإطالة بالتعرض للقطات من معرفتي الشخصية للفتى عندما كان طفلاً. المهم سابقت الحركة الوطنية الزمن، لكي تنجح في تقفيز عساف من فوق العقبات لكي يشارك في "عرب أيدول". رفضت سفارة لبنان في القاهرة منحه التأشيرة، فتكفلت سفارتنا في بيروت بتأمينها في اللحظات الأخيرة. وساندة اتحاد الفنانين الفلسطينيين في لبنان بالوقوف معه مادياً ومعنوياً. 

وكان الشاب يستحق، لأنه يمثل عنصر التواصل لأجيال من الفنانين، أذابوا أرواحهم من أجل فلسطين. لقد أصر محمد عساف، على تعلية الكوفية، وعلى أن يصدح في كل أرجاء العرب، وكانت له منصة الظهور والإسماع في الموسم الثاني من "عرب أيدول" لكي يقدم في التصفيات أغنيات أيقونية، لأصوات وأسماء من أزمان مختلفة. وأدى عساف تلك الأغنيات بصوت كأنه رجع الصدى، ليمضي على طريق طموحه الخاص في الإطار التعبيري العام للروح الفلسطينية، وهذا ما ذهب اليه عن سبق إصرار وترصُّد!