"الاقتصاد والسياسة والاعتماد على الغير" بقلم/ أ.د. معين محمد رجب

د.معين  رجب.jpg
د.معين رجب.jpg

"الاقتصاد والسياسة والاعتماد على الغير"

بقلم/ أ.د. معين محمد رجب

أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر (سابقًا)

الاقتصاد هو حصيلة الإنتاج واستغلال الطاقات البشرية والمادية المتاحة، وينعكس ذلك في الاعتماد على الذات بدرجات عالية مع تحاشي الاعتماد على الغير سواء في صورة منح خارجية أو قروض عامة، لذا فالاقتصاد هو مصدر القوة لأي شعب من الشعوب وهذا بدوره ينعكس على السياسة وبالعكس، ومن ثم فإن الاقتصاد والسياسة صنوان لا يفترقان فالدولة التي تملك القدرات الاقتصادية الكبيرة ومعدلات النمو العالية تستطيع تطويع هذه الإمكانيات لصالح السياسة والقدرات العسكرية، ومالم يتم استغلال الإمكانيات الاقتصادية الاستغلال الأمثل فستكون هناك حاجة للاستعانة من وقت لآخربالقروض وتحمل أعباءها مما يشكل ضغوطًا إضافية.

والآن تستغل الولايات المتحدة هذا الوضع وبصورة غير أخلاقية فهي تتحلل من أية التزامات دولية لا ترغب في استمرارها،كما تفرض العقوبات الاقتصادية على الغير في سبيل ابتزاز الدول التي لا ترضخ لسياساتها.

كذلك فإن الصين التي تمتلك أرصدة هائلة من النقد الأجنبي تسعى للاستفادة من هذا الفائض لتوظيفه على نحو مدروس يحقق لها أعلى المزايا الممكنة، فمن خلال برنامج الحزام والحرير فهي تسعى إلى توسيع علاقاتها الخارجية مع مختلف بلدان العالم عبر استثمارات ضخمة في مجالات البنية التحتية كالطرق والمواصلات والاتصالات والسكك الحديدية والكباري والانفاق، وتحصل مقابل ذلك على احتياجات صناعاتها من مختلف أنواع الخامات والمواد الأولية والثروة النفطيةبشروط ميسرة دون الحاجة إلى ابتزاز الدول أو استخدام القوة العسكرية.

أما على المستوى الفلسطيني فالوضع الاقتصادي بالغ السوء من حيث تفاقم معدلات البطالة العالية وغير المسبوقة والتي أفضت إلى الفقر وانعدام الأمن الغذائي بين أغلب شرائح المجتمع، وأصبح الاقتصاد الفلسطيني غير قادر على توفير احتياجاته السلعية زراعية أو صناعية بالقدر الذي يتطلع إليه، وبالتالي فهو يعتمد على العالم الخارجي في الحصول على أغلب احتياجاته وتُقدر وارداته السلعية بنحو أربعة أضعاف صادرته، ولم تنجح السياسات المتبعة في التخفيف من حدة هذه الظاهرة.

وحول قدرة السلطة الفلسطينية على تقديم خدماتها للمجتمع عبر كوادرها الوظيفية الكبيرة فإنها ظلت مرهونة بالاعتماد على الغير في تغطية عجز موازناتها السنوية وبالتالي لم تجد من سبيل سوا حث المجتمع الدولي على تقديم الدعم المالي. وعبر ربع القرن الماضي فقد قدمت الدول المانحة والمجتمع المدني عشرات المليارات من الدولارات التي وجهت بشكل رئيسي نحو تغطية عجز الموازنة العامة أي كإنفاق استهلاكي مع جزء يسير خُصص للمشاريع التطويرية. وعند عدم كفاية أموال الدعم الخارجي فكانت السلطة ولا تزال تلجأ إلى الاقتراض سواء في صورة قروض عامة داخلية أو خارجية مع ما يترتب على ذلك من أعباء إضافية، بحيث أن الاعتماد على الذات في مجال تحقيق التوازن بين شطري الموازنة العامة غير وارد ضمن السياسات الحكومية المتبعة.

وجاءت الخطوة الأخيرة من جانب إسرائيل التي قامت بابتزاز الفلسطينيين وحجز قيمة ما جرى تخصيصه لأسر الأسرى المحررين والجرحى والشهداء لصالحها وذلك عن عام 2018م، وكان رد فعل السلطة الفلسطينية ممثلًا في رفض استلام أموال المقاصة المنقوصة التي تشكل أكثر من ثلثي حصيلة الإيرادات العامة، ولا تزال ترفض كل الوساطات الرامية إلى حثها لقبول ما تبقى من هذه الأموال، ممل نقل السلطة الفلسطينية إلى مشكلة مالية أكثر تعقيدًا، فالإيرادات المحلية غير كافية والدعم الخارجي في تراجع، مما اضطر السلطة الفلسطينية إلى الإعلان عن موازنة طوارئ لحين اشعار آخر، وبمقتضاه كان الموظفون العموميون هم الحلقة الضعيفة حيث جرى خصم جزء كبير من رواتبهم الشهرية وبنسب متفاوتة بين الضفة والقطاع، حيث شكلت هذه الخطوة معاناة إضافية للموظفين ولأسرهم وكافة من يتعاملون معهم بما في ذلك البنوك الحريصة على تحصيل مستحقاتها من المقترضين، مع حدوث شلل كبير في حركة المعاملات اليومية مع ركود شديد في الأسواق وتراجع أكبر في الاستثمارات، وأمام هذا المأزق المالي الكبير الذي تعاني منه السلطة الفلسطينية، جاء التلويح من جانب الولايات المتحدة بالرخاء الاقتصادي الذي يمكن تحقيقه للفلسطينيين في الضفة والقطاع وفي بلدان الطوق التي تعاني بدورها من أزمات اقتصادية متفاقمة، وذلك بالتوافق مع عقد ورشة بهذا الغرض كمرحلة تسبق استكمال صفقة القرن والاعلان عنها، على أن تعقد في مملكة البحرين خلال الشهر القادم وذلك بحضور دولي وعربي كبير، مع جهود عربية ودولية لإقناع القيادة الفلسطينية بحضور هذا الملتقى، وقد كان رد الجانب الفلسطيني بالرفض المطلق من جانب المجلس الوطني والفصائل الفلسطينية.

إن الرفض الفلسطيني لهذه الدعوة سواء تحقق على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي ليس كافيًا لمواجهة ما يحاك من مؤامرات تتعلق بحاضر قضيتنا ومستقبلها مما يتطلب عملًا فلسطينيًا مدروسًا قادرًا على أن يستعيد الفلسطينيون بموجبه هيبتهم وفرض إرادتهم، وهذا يستدعي بروزوحدة الموقف الفلسطيني وتنظيم صفوفه وتجميع طاقاته في بوتقة واحدة، وهو ما يتطلب إرادة قوية وسياسات حازمة نحو الوصول إلى أقصى قدر من الاعتماد على الذات في جميع المجالات المتاحة خاصة في الزراعة والصناعة والبنية التحتية في مجالات المياه والكهرباء والطرق والمواصلات، ولا يكون ذلك إلا من خلال إعطاء الفرصة للطاقات البشرية الشابة المبدعة والخلاقة لكي تقوم بهذا الدور بل لتقوده نحو بر الأمان، ومجالات هذا العمل لا محدودة طالما توفرت الإرادة والعزيمة، فالأوطان لا تبنى إلا بسواعد أبنائها، عندها يكون للفلسطينيين شأن وصوتٌ مسموع ويستطيعون تحقيق ما يريدون.