حدث في مثل هذا اليوم واليوم الذي تلاه بقلم / زينب الغنيمي

حدث في مثل هذا اليوم واليوم الذي تلاه  بقلم / زينب الغنيمي
حدث في مثل هذا اليوم واليوم الذي تلاه بقلم / زينب الغنيمي

حدث في مثل هذا اليوم واليوم الذي تلاه

بقلم / زينب الغنيمي

حدث في مثل هذا اليوم الخامس من حزيران قبل ستة وأربعون عاما ، أنني كنت مع أفراد عائلتي وجيراننا نلوذ بالاحتماء في مسجد (السيد المغربي) بمنطقة بني عامر بحي الدرج بمدينة غزة ، وأذكر أن جدي ( رحمه الله) الذي كان إمام المسجد كان يقرأ القرآن ويعلو صوته بالدعاء والتضرع إلى الله كي يحفظ الناس من الموت والبلاء القادم ، وكان الكبار يطلبون منا نحن الصغار حينها أن ندعو لله ونقول آمين لأن الله يستجيب لبراءة الأطفال.

وأذكر أيضا أن الشبان والشابات من المدارس الثانوية المتطوعون في المقاومة الشعبية كانوا يقفون في أركان حارتنا ويتوزعون في الأزقة كي ما يسارعوا لنجدة من يطلب المساعدة ، في حين البعض منهم يطلق بين الفينة والفينة زخة من الرصاص في الهواء بعد مرور الطائرة التي تكون قد قذفت حممها في غير مكان.

قيل أن جيش التحرير الفلسطيني سوف يهزم إسرائيل  لأنه متسلح ومدعوم من الجيش المصري العتيد ، جيش الزعيم جمال عبد الناصر الذي – رفض التجديد لقوات الطوارئ الدولية – والذي كانت إذاعة صوت العرب تردد على مدار الساعة بصوت المذيع أحمد سعيد الشعارات القوية التي يتمسك بها الزعيم لتحرير فلسطين ودحر اسرائيل، بالإضافة للأغاني الحماسية لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم، وأذكر أن أبي – رحمه الله - لم يكن يحب أن يستمع لهذه الإذاعة ويحيل إبرة مؤشر المذياع إلى إذاعة لندن لأنه كان يقول نريد أن نسمع أخبار لنفهم مايجري حولنا ولا نريد أن نسمع تلفيقات .

وقيل أيضا أنه رغم تلك الشعارات والحماسة لم يتلق جيش التحرير أية أوامر بماهية الخطة العسكرية للتصدي ، وأن ضباطه كانوا يتصرفون بوحي مما تمليه عليهم وطنيتهم ( من أقاربنا وجيراننا كان عددا منهم بين ضباط وجنود)، وكان بعضهم يجول في السيارة العسكرية من منطقة لمنطقة لتبليغ الجنود أن هجوما بريا يتوغل إلى غزة وأن عليهم أخذ احتياطهم، حتى أن منهم من لاحقته الدبابة الإسرائيلية تطلق عليه النار لتوقفه ولم يكن ليتوقف حتى أتم رسالته، ومن ثمّ وقع أسيرا في قبضة الجيش الإسرائيلي.

في تلك الليلة المرعبة وهي ذكرى لأولى الحروب التي شهدتها، نام البعض ولم ينم الغالبية ونور ضعيف يرشد الكبار للحركة ، كان ذلك ضوء منبعث من لمبة زجاجية مملوءة بالكاز الأبيض وُضعت جوار زاوية بعد أن حُجب ضوؤها ببطانية سوداء كي لا ترى الطائرة النور فتقصف المسجد، كان لدى أمي – رحمها الله - يقينا غير عادي بأنه لن يصيبنا مكروه لأننا في بيت الله ، لذا كانت مطمئنة وهي تحتضن أصغرنا طفلة ذات الثمانية شهور وترضعها بحنان وهي تتمتم بقراءة سورة ياسين ، وتتفقدنا بين الحين والآخر لتبعث فينا الطمأنينة ، فيما كان أبي مع باقي الرجال في زاوية أخرى من طرف المسجد أقرب للباب الرئيسي مستعدون لأي تحرك .

حدث في الصباح الباكر من اليوم التالي السادس من حزيران ، أن أمي وأبي قرّرا العودة للمنزل ، ومن خلال متابعة أبي للأخبار حاول إقناع الجميع أن يذهبوا لبيوتهم لأن الحرب انتهت ، لذا على الجميع اغتنام الفرصة والعودة لبيوتهم قبل أن تدخل حارتنا سيارات الجيش الإسرائيلي ، بعض من الناس اقتنع واستجاب ومنهم من استجاب بعد أن أكد الأخبار لهم قريب لهم في المقاومة الشعبية أو في الجيش، ومنهم من اضطر للهرولة مسرعا لبيته بعد أن سمع مكبرات الصوت لجيش الاحتلال تطلب من الناس التزام بيوتهم بسبب حظر التجول تحت طائلة إطلاق الرصاص .

أذكر أني على غير العادة ، وكذلك أختي التي تكبرني بعامين بكينا بحرقة ونحن نستمع لمكبر الصوت يذيع نبأ سيطرتهم على غزة وبدء حظر التجول ، حيث رأينا سيارة جيش الاحتلال بوضوح تلك التي كانت تسير في شارع صلاح الدين من شرفة منزلنا الذي كان مرتفعا بالنسبة لحي التفاح ، بكاؤنا كان بسبب أختنا الطفلة التي كانت معنا لأننا عدنا بها للمنزل نحن وأبي قبل أمي وباقي العائلة وجدي وعمتي الذين تخروا لنقل الأمتعة التي نقلناها للمسجد قبل يوم ، وكانت أمي مهتمة أن نسبقها كي لا نتحرك جميعا في ذات الوقت ، حزننا كان في انحسار تفكيرنا في الصغيرة التي كنا نخشى ألا تتمكن أمي من الوصول إليها لترضعها، وتذكرنا كل الروايات التي حدثت في في العام الثامن والأربعون من القرن الماضي عن تشتيت الأمهات عن أبنائهن.

حدث ذلك في يوم مايسمى بالنكسة وهو في الحقيقة تاريخ لهزيمة نكراء لازلنا ندفع استحقاقها حتى يومنا هذا، لأنها ليست بأقل وطأة على شعبنا من النكبة التي سبقت .

 

--