هذا أوان الإستراتيجيات... وليس زمن التكتيكات الصغيرة !! ..د.غازي حمد

هذا أوان الإستراتيجيات... وليس زمن التكتيكات الصغيرة !! ..د.غازي حمد
هذا أوان الإستراتيجيات... وليس زمن التكتيكات الصغيرة !! ..د.غازي حمد

هذا أوان الإستراتيجيات... وليس زمن التكتيكات الصغيرة !! ..د.غازي حمد

بالرغم من ان الوقت متأخر جدا , وبالرغم من مرور سنوات وعقود على ما كان يجب عمله ابتداء , إلا ان الامل لا ينقطع في احداث تحول(ربيع سياسي) في الساحة الفلسطينية , تحول يخرجها من حالة الجمود والتصادم "غير المبرر" وحالة "التيه "السياسي الى حالة من العمل الوطني المشترك .
مع التحولات الكبيرة والجوهرية في المحيط العربي بما اشتمل من ثورات وتغيير انظمة وإقامة حكومات ديمقراطية وتبدل في السياسات العامة والرؤية الاستراتيجية , فان هذا يستلزم التعاطي مع هذه التغيرات بعقلية اكبر وجدية اكبر , وقياسات علمية مهنية , وليس حسابات عاطفية مندفعة أو توقعات مبالغ فيها تشتط الى درجة الاحلام.
دعونا من الترهات التكتيكية والمناورات الصغيرة التي عشنا عليها طوال سنين وسرقت من اعمارنا فترة طويلة وضيعت علينا الكثير من الانجازات والمصالح التي كان يمكن صناعتها وتطويرها .
عشنا سنوات طويلة , بدون استراتيجية واضحة المعالم والأهداف والوسائل , واتكأنا على تكتيكات "العمل اليومي" , وتكتيكات القضايا الهامشية الصغيرة ..وتكتيكات الصراع الحزبي وتكتيكات المناكفة .. وتكتيكات الصعود والهبوط ... المسيرة السياسية والعمل المقاوم خضعت لحسابات تكتيكية وليست إستراتيجية  ولذا وصلت الى طريق مسدود ,وقس على ذلك باقي القضايا : العلاقات الوطنية ... العلاقات الخارجية ... الصراع مع الاحتلال .
ان العمل التكتيكي يمكن ان يمنحك بعض الرضا وشيئا من الانجازات البسيطة , لكنها تستهلك منك عمرا طويلا وجهدا هائلا ويبعدك عن الاهداف الكبرى.. بل انه يحرفك عن المسار الصحيح.
يوم ان تصبح انجازاتنا "حكومية" أو "حزبية"  , وتضيع معها الانجازات "الوطنية" فإننا نسجل على انفسنا رسوبا استراتيجيا !!
ان الذين يحسنون صناعة الاستراتيجات يكون من السهل عليهم صناعة التكتيكات والانجازات السريعة, لكن الذين يفتقدون الاستراتجية يهيمون ويضيعون في مسالك وصحارى مقفرة , وربما يقنعون انفسهم انهم صنعوا شيئا او انجازا يرضون به تطلعاتهم .
اليوم ونحن نرى المنطقة بأسرها تهتز وتتغير , وهي تطال دولا كبرى مؤثرة في صناعة التاريخ والمعادلات السياسية , فانه ينبغي التعامل مع هذه التغيرات الجذرية ضمن الاستراتيجيات وليست التكتيكات "الوجبات السريعة".
** عقلية احادية وإستراتيجية غائبة
       ولان الحالة الفلسطينية تعاني  من غياب الاستراتيجية, وأيضا من الخلط  المشوه بينها وبين التكتيك , فقد وقعنا في كثير من الاخطاء والإخفاقات والصدامات.. بل اننا سرنا في اتجاه معاكس وخطير اشغلنا بأنفسنا, وأقنعنا بان الصراع الداخلي هو الاصل , وانه يجب تجنيد كل الطاقات والإمكانيات للي ذراع الخصم السياسي , وانه اذا "انتصرنا" عليه فقد حققنا مـأربنا.. وان ألحرب بين البرامج السياسية هي لب الخلاف .. وأننا "خطان متوازيان" لا يلتقيان .. وان احدا منا على صواب مطلق والأخر على خطأ مطلق .من هنا نشأت الكثير من المفاهيم المشوهة و"المضروبة" والتي حولت الحالة السياسية الفلسطينية الى حالة هلامية ضبابية .
الاخطر من ذلك , ان السياسة في كثير من الاحيان تخضع الى "المزاج السياسي",  تعلو فيه النبرة والهتاف والضجيج على صوت العقل والحكمة والتخطيط ,  فتجد ان بعض القيادات تصرح وتطلق الكثير من العبارات التي تفتقد اسس الفهم والوعي السياسي وتسرح الى عالم خيالي, بل وتشتط في خصومتها الى درجة "الهدم" والقطيعة وإحكام اللون الواحد.
مشكلة العقلية السياسية الفلسطينية انها عقلية أحاديه وليست عقلية جماعية , وعقلية مسكونة بالخوف والشك بالآخر , وعقلية تجنح الى التفرد وصنع النجاحات الفردية وتأبي التسليم بنجاحات الاخر , بل وتسعد اذا فشل او وقع في مأزق وتشمت به وتبالغ في إغراقه بدلا من مد العون له ومساعدته على الخروج  , فقط لمجرد الاثبات بأنه "ضال " غير مهتد !!
ان الاستراتيجية لا يمكن ان تنجح بالفهم الفردي او "المزاج السياسي" او "النمط الحزبي" , بقدر ما تنجح اذا ما بنيت على مجموعة من الافكار الخلاقة والطاقات الوطنية والفهم الجماعي , خصوصا اذا ما كان المسألة تتعلق بمواجهة احتلال يعاني الكل منه .
** فجوة كبيرة بيننا وبين عدونا
         "اسرائيل" من بداية انشائها , وهي تعمل ضمن المفهوم الاستراتيجي , لذلك يسهل عليها تنفيذ الكثير من الاهداف التكتيكية (سلة الاهداف) التي تحتاج فقط الى قرار وتوقيت وأدوات .
 انظروا كم نجحت استراتيجتها في بناء الدولة وزرع الاستيطان وجلب "المهاجرين" وسرقة الاراضي وتهويد القدس وتجنيد الرأي العام العالمي و"تدويخ" المفاوض الفلسطيني وسلب اوراقه ...انهم يدرسون التاريخ والجغرافيا ..يدرسون خصومهم ويجمعون المعلومات , ويفهمون ما معنى الاستراتيجية والخطط طويلة الامد .. انهم يقرأون ويدققون ويضعون الخطط لعشر وعشرين سنة .. بل انهم يراجعون ويحاسبون وتتغير حكوماتهم وتتبدل فيما يظل نظامهم السياسي متماسكا .
 اما نحن , ( فلأننا مأزومون ومحبوسون في زنزانات التفكير اليومي الصغير ) فلا نفكر عميقا ولا نخطط طويلا , ولا نراجع ولا نحاسب بل ونغطي على كثير من الاخطاء والإخفاقات  حتى لا يشمت بنا الاخرون . انه تفكير "صغير وضيق ومحدود " ولا يتماهى مع قضية عظيمة مثل قضية فلسطين بكل ابعادها العربية والإسلامية والدولية .. انها قضية تحتاج الى "الرجال الكبار" والعقول الكبيرة المفكرة التي تسهر على التخطيط والمدارسة .
اننا لا  نستعرض الا انجازاتنا "الصغيرة " البسيطة ’ بل ونضخمها,  الى درجة اننا نعتبر ان افتتاح شارع او بناء مدرسة هو " تحول استراتيجي "هام وان ثبات الحكومات هو دلالة على "صحة المسار " .أما ضياع الوطن وتمزق المجتمع وفقدان المستقبل فلا مكان له في التفكير !!  انها مفارقة عجيبة وغريبة .
** أين نحن من الربيع العربي ؟
    اسالوا اصحاب القرار السياسي وقولوا لهم : اين هي خططكم للتحرير ؟ وأين تصوركم لمعالجة الصراع بشموليته؟  وما هي رؤيتكم لمواجهة سرطان الاستيطان ؟ وأين هو البرنامج السياسي الذي يمكن ان يوحدنا ؟ وهل نجحتم في خلق سلم أهلي بدلا من التناحر والانقسام ؟ بل كيف تفهمون "اسرائيل " العدو , من حيث مكامن الضعف والقوة , ومن حيث المعلومات الموثقة عنها سياسيا وعسكريا   حتى تستطيعون مواجهتها وهزيمتها ؟...  اسالوهم : ما هي الخطط والتصورات التي وضعتموها لكي تستفيدوا من الربيع العربي ؟ وهل لديكم فكرة واضحة – من حيث المعلومة والتحليل- عن الواقع الجديد الذي يتشكل والى اين سيتجه  ....اسئلة تفتقد للكثير من الاجابات . ومع اضاعة الاجابات تضيع البوصلة وتضيع الاهداف المرجوة .
ان الحقائق والأرقام والوقائع تثبت كم هي الفجوة الهائلة بيننا وبين عدونا من حيث الفهم والتخطيط الاستراتيجي ....وتثبت كم نحن غارقون في مفاهيم صغيرة ومخلطة ومشوهة وبحاجة الى جراحة دقيقة لإعادة تصويبها .
اليوم ونحن نرى ثورات وتحولات عظيمة في مصر وليبيا وتونس وغيرها لا نملك الا ان نفكر بنفس العقلية المحبوسون فيها منذ خمسين عاما . كل يفكر بالطريقة التي تحقق له الانجاز لوحده دون سائر الخلق ودون فهم جماعي وطني يمكن من استثمار الثورات لصالح القضية الفلسطينية .
ان التغير الهائل في الواقع العربي يجب ان ينزع عنا الشرنقة التي تخنقنا , ويجب ان ينقل عقولنا نقلة بعيدة في التفكير الاستراتيجي ...وهذا يستلزم اولا / التخلص من ترهات وعبثيات الانقسام الصغيرة التي تتعارض كليا مع المفهوم الوطني الجماعي ومع التفكير الاستراتيجي الصحيح , ثانيا / يجب القناعة بأنه لا يمكن استثمار الربيع العربي دون وحدة وطنية تقوم على اساس الفهم المشترك , ثالثا / ان الربيع العربي يستلزم منا تصورات واضحة كيف يمكن خلق محاور ومعادلات سياسية جديدة في المنطقة مع القوى المؤثرة  والتي تستطيع ان تشكل سندا استراتيجيا وقوة داعمة حقيقية للقضية الفلسطينية .
مثلا , يجب ان نعمل سويا من اجل ان تكون كلا من مصر وتركيا وليبيا وتونس وقطر وغيرها محورا قويا في حمل القضية الفلسطينية والدفاع عنها في المحافل الدولية وكيف يمكن ان تشكل رادعا قويا لجرائم وممارسات الاحتلال , وكيف يمكن ان تساعد الفلسطينيين في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية . هذا يجب ان يكون ضمن رؤى وليس ضمن تمنيات تفتقد اسس الواقعية السياسية .. وضمن تحرك وطني جاد وليس ضمن "مسابقات" حزبية !!
يجب ان نفكر جيدا ويجب ان نتخلص من الكثير من اوشاب الماضي التي قامت على المناكفة والتفكير الفردي ونندفع باتجاه خلق قوة سياسية جديدة في المنطقة .
استمرار الانقسام بشدة بين فتح وحماس وعودة الجدال اللانهائي :من المخطئ  ومن له المصداقية؟ ومن المسئول عن تعطيل المصالحة ....كلها اسئلة صغيرة يجب ان نتجاوزها الى ما هو اكبر منها .. هذا الجدل مثل الدائرة  المفرغة يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية وتحترق فلسطين، كما احترقت روما عندما عاشت في ذلك النوع من الجدل.
ان اخشى ما اخشاه ان نضيع الربيع العربي بسبب "المراهقة السياسية" وبسبب التوقعات المتسرعة وغير الواقعية التي تفتقد الحسابات الصحيحة .. واخشى ما اخشاه ان يلتفت العالم فيما بعد الى قضايا اخرى تجعل قضيتنا في ذيل القافلة .
انظروا كم (صدعت)   المصالحة رؤوس المصريين على مدى خمس سنوات وكم " زهقوا" من كثرة تناحر الفصائل وتنازعها الى درجة انهم اصيبوا بالملل وأحيانا باليأس من ايجاد اختراق في هذا الجبل الجلمودي الاصم (الانقسام)؟
نحن الذين يجب ان نساعد اخواننا العرب في كيف يساندوننا , لا ان نضع العقد والالغام في الطريق ... نساعدهم حينما نأتيهم جميعا بقلب مفتوح وحسابات وطنية لا حزبية ونغلب روح التسامح على روح الخصام , حينها ستجدون ان الربيع العربي يزحف الى بلادنا زحفا .
اقول للقيادات السياسية : هذا اوان التفكير الاستراتجي , وليس زمن الترهات التكتيكية الصغيرة ... اجعلوا عبثية الانقسام وصغائره وراء ظهوركم ... لا تبحثوا عن منجزات صغيرة عارضة .. ابحثوا عن المنجزات الوطنية الكبيرة .. فكروا ان تنقذوا فلسطين قبل ان تنقذوا حكوماتكم .. فكروا كيف تصنعون تاريخا يكتب عنكم .
عجلة التاريخ لا تزال تخط الى اليوم بالحبر الاسود ان الانقسام هو "قانون المرحلة" ... لذلك امسحوه من تاريخكم لأنه عار واسود ومشين !!  امسحوه لان شعوب وحكومات الربيع العربي لن تقبل به ان يدخل عواصمها او ان يكون جزءا من سياساتها او يلوث نقاوة الربيع فيحوله الى خريف بلا اوراق ولا زهر ولا ثمر !!.