كلمات مؤثرة للشهيد «رامي قحمان»

الشهيد رامي قحمان.jpg
الشهيد رامي قحمان.jpg

غزة / المشرق نيوز

ثابتة عيناه نحو السياج الفاصل، صامتاً، هادئاً كان، بينما ما تزال أصوات الرصاص تعلو، وقنابل الغاز تنشر دخانها بالأرجاء، الكل يركض، وما زال " رامي" مكانه يُراقب ما يدور حوله، ربما كان يُفكر بواقع بلاده المرير الذي جعل سكانها يواجهون الموت على الحدود أملاً بانتزاع حقوقهم، وربما يتذكر مقولته التي يرددها دائماً " الشهادة لحظةٌ لا ألم فيها".

بين جموع المُتظاهرين بميدان العودة شرق محافظة رفح، كان الشاب رامي قمحان يقف أمام احدى خيام العودة المنصوبة على بعد أمتار من السياج الحدودي، يُشاهد همجية الاحتلال بقمع المسيرات السلمية، لكن ذلك القناص اختاره دون غيره، فسدد نحوه رصاصة حاقدة فجرت رأسه الذي لم يكن فيه سوى حلمٌ بالعودة وكسر الحصار.

واستشهد رامي إسحاق قمحان (28عاماً)، يوم الجمعة الماضي، اثر رصاصة إسرائيلية أصابت رأسه أثناء مشاركته في مسيرات العودة على الحدود الشرقية لمدينة رفح جنوب قطاع غزة.

الغيمة السوداء

بدأت الشمس تنسحب بخجل فقد أرهقتها صرخات المُصابين وبكاء ذوي الشهداء، تاركة المساحة لعتمة الليل الطويل، وفي الوقت ذاته كانت زوجة الشهيد قد انتهت من تزيين طفليها وإعداد وجبة العشاء لـ"رفيق دربها"، منتظرةً عودته من مسيرة العودة ليُشاركهم الطعام، لكنه لم يعد.

مضت الساعات وكأنها سنوات، زوجة الشهيد تراقب عقارب الساعة المتأرجحة يميناً ويساراً تارة، وتارة أخرى تنظر لباب المنزل أملا بأن يطُل عليها رامي باسماً كما عادته، لكنها لم تكن تعلم أن الخبر الذي تخشي وقوعه، قد بات محققاً.

ومع حلول المساء، تلقي شقيقها اتصالا هاتفياً من أحد الشباب المتظاهرين على الحدود، يُعلمه بأن نسيبه "رامي" قد استشهد، ليكون بمثابة صدمة أصابت قلب زوجته، وغيمة سوداء خيمة على عائلته الصغيرة.

بقلب مزقته أهات الحزن، تقول زوجة الشهيد:" خبر استشهاد رامي كان زي الصاعقة على قلبي، وغيمة سوداء حلت علينا، كنا بنستناه يدق باب الدار وينادي علينا زي عادته، كنا عاملين اله مفاجأة حلوة، لكن استشهاده فجعنا".

بصوت ضعيف بالكاد يُسمع ، تتابع خلال حديثها لـ"الاستقلال":" رامي كل جمعه كان بروح يتفرج على المسيرات، كنت اترجاه ما يروح عشان خاطر أولاده ما كان يرد عليا، ويقول ما تخافي أنا بوقف بعيد عند الخيام الرصاص ما بوصل عندي".

أجهشت بالبكاء، ثم أكملت حديثها:" الرصاص ما وصل عنه، الرصاص وصل جواته، أخذ روحه منه، وأخذه منها، الله يصبرنا على فراقه و يتقبله شهيد".

اللقاء الأخير

رحل" رامي" لكنه ترك بقلب زوجته كلماتٍ يصدح صداها بكل لحظة، فقبل يوم واحد من استشهاده وعند تناول طعام العشاء تحديداً، نظر إليها نظرة غريبة وقال:" ديري بالك على الأولاد وحطيهم جوا عنيكي، واذا موتت أمانه تدفنيني برفح"، فردت عليه بسرعة:" ما تحكي هيك يا رامي، الله يطول بعمرك"، فأجابها ضاحكاً:" يا رب أموت قبلك لأني ما بقدر أحبس الحسرة بقلبي ولا بقدر أعيش الاولاد".

وأضافت الزوجة المكلومة:" لم أهتم لكلام رامي واعتبرته مجرد مزحة وانتهت، ما كنت بعرف انه كلامه سيتحقق".

ولعل " رامي" لم يرغب بالرحيل عن زوجته وطفليه دون أن يودعها بطريقة مميزة تدوم ذكراها في قلوبهم طوال حياتهم، ففي يوم الجمعة وبعد تناول وجبه الغداء تحديداً، أمضي معهم وقتاً طويلاً يُعد الأجمل منذ بدأ مسيرات العودة، فقد كانت مليئةً بالألعاب والحكايات والضحكات.

وبعد ساعتين بدقه، هم "رامي" بالخروج لميدان العودة شرق رفح كما كل يوم جمعه، فيما وقفت زوجته تُحاول أن تقنعه بالعدول عن رأيه هذا اليوم والبقاء برفقة أطفاله، إلا أنه أصرّ على الذهاب، وكرّر مجدداً ما يقول دائماً:" ما تخافي بوقف بعيد، واذا استشهدت ما بحس بالألم".

وأردفت والدموع تملأ وجنتيها:" كل جمعة رامي بطلع على الحدود بعد الغداء مباشرة، لكن الجمعة هادي لأول مرة يأخر طلعته ويضل يلعب معنا ويضحكنا لساعتين كاملين، كانوا احلى ساعتين مروا علينا من بداية المسيرات"، مضيفة:" كان بودعنا وانا مش حاسة، ياريت وقفت الدنيا عند هدول الساعتين وما تركنا لحالنا".

شهيد الفقر

لم يكن "رامي" بعيداً عما آلت إليه أوضاع المواطنين في قطاع غزة، فمع ضيق الحال وعدم توفر فرص عمل، بدأت الحياة تضيق كثيراً عليه، إلى أن بات عاجزاً عن توفير لقمة العيش لزوجته وطفليه، واضطر للعيش بغرفةٍ داخل منزل عائلة زوجته لحين تحسن الأوضاع.

وتقول زوجة الشهيد:" رامي شاب فقير عايش الواقع المرير الذي نعيشه بغزة، بدون أمل ولا حياة، كان دائما يُفكر كيف سيوفر لنا لقمة الطعام، لم يدع باب مؤسسة الا وطرقه بحثاً عن العمل، لكن بدون فائدة، وحينما انطلقت مسيرات العودة وسمع انها الطريق نحو العودة وفك الحصار، أصر على المشاركة بها لحين تُفرج حتى وان كلفه الامر حياته".

وفي نهاية حديثها، اكدت أن الذل والمؤامرات التي تُحاك ضد المواطنين بغزة، هي التي دفعت الالف للمشاركة بمسيرات العودة، أملا بانتزاع حقوقهم في ظل تفاقم أوضاعهم المعيشية والاقتصادية سوءاً، مضيفة:" الشعوب لا تموت من الجوع بل تموت من الذل".

وكان الشهيد رامي قبيل استشهاده بساعات, ناشد في رسالة له المسؤولين بضرورة تقديم مساعدة مادية كي يستطيع أن يسد من خلالها بعضاً من احتياجاته الأسرية المطلوبة منه نظراً للأوضاع المعيشية التي يعيشها وهو أب لأسرة تتكون من ثلاثة أفراد, زوجته و طفلين.

في لحظات الوادع، قالت زوجته خلال توديعه في المستشفى: “يا حبيبي، الله يرحمك، أولادك أمانة برقبتي، والله ما تخاف، والله كإنك موجود وزيادة، ما تخاف”.

وألقى ذوو الشهيد نظرة الوداع عليه، في أجواء طغت عليها حالة الحزن والألم لفراقه. ليمضي موكب التشييع إلى مواراة جثمانه الثرى بمقبرة الشهداء ،بمخيم بيت لاهيا، وسط هتافات غاضبة، تؤكد مواصلة مسيرة العودة.