تفاصيل مذهلة : غزّي يروي تفاصيل وفاة طفله وتحلل جثته في حضن أمه أثناء هجرته من غزة عبر البحر

طفل ميت.jpg
طفل ميت.jpg

تفاصيل مذهلة : غزّي يروي تفاصيل وفاة طفله وتحلل جثته في حضن أمه أثناء هجرته من غزة عبر البحر 

غزة/ خاص المشرق نيوز/ احمد السماك

"تضايق الجميع من رائحة جثته، حملته وصعدت به إلى أعلى مكان بالسفينة، خشية أن يلقي ربان السفينة بجثته في البحر. حضنته وقبلته، كان وجهه أبيض أبيض، والله ما شممت منه إلا رائحة المسك".

تنهمر الدموع من عينيّ الغزّيّ الثلاثيني معاذ (اسم مستعار) كلما تذكر صغيره المتوفى ذو العامين الذي أنجبه عام 2012 بعد سنتين من زواجه. إذ وُلد مصاب بتكسر السكر في الدم، وبعدها أصيب بسرطان في الدم. ذهبت عمته لعلاجه في مستشفى المقاصد في القدس خلال عام 2013. وكانت له زيارة لذات المشفى، في الربع الأخيرة لعام 2014 الذي شنت خلاله إسرائيل حربها على غزة واستمرت 51 يوماً، مخلفةً 2322 شهيداً، و10564 جريحاً، وفق وزارة الصحة. عجز معاذ أن يوفر لابنه محمد (اسم مستعار) تغطية مالية من السلطة الوطنية، لارتفاع عدد الجرحى.

كانت حالة محمد تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ولا يوجد له علاج بالقطاع؛ فاضطر والداه للسفر إلى مصر مع صغيريْهما؛ الرضيع ومحمد، لمصر لعلاج الأخير على حسابهم الشخصي في معهد ناصر الطبي بالقاهرة. لكن إهمال الطبيب المشرف على محمد زاد من تدهور حالته بعد أسبوعين من المكوث في المعهد الطبي. وفق ما أوضح معاذ لـ "المشرق نيوز".

لم يتبق أمام معاذ سوى أن يذهب لصديق له في النرويج، كان قد عرض عليه التكفل بعلاج ابنه. لكن صديقه لم يستطع أن يساعده في الوصول حيث يقيم بشكل رسمي، لأنه لم يكن قد حصل على الإقامة بعد. كان الخيار الوحيد أمام معاذ أن يهاجر عبر البحر، بشكل غير رسمي، مع عائلته إلى النرويج، وإلا فموت محمد مسألة وقت فقط. حسم الأب الموقف، وقرر وزوجته السفر عبر البحر رغم معارضتها.

يقول معاذ: "اضطررت للذهاب إلى مُهرّب، أخبرني أنه يستطيع أن يوصلني إلى إيطاليا فقط، فوافقت. أخذ المُهرّب منا أربعة ألاف دولار. اتفقنا أن نلتقي في منطقة ميامي بالإسكندرية. وصلنا إلى هناك، وجلسنا ننتظر على شاطئ البحر برفقة كل المهاجرين، لكن لا أحد فينا يعلم الآخر. كان لدينا إشارة من المُهرّب، وهي قدوم ثلاثة مراكب صغيرة فنصعد عليها بسرعة، وبالفعل، جاءت المراكب وصعدنا عليها، على أساس جولة في البحر. كنا 20 شخصاً على المركب تبعنا".

وبعد أن قطع المهاجرون قرابة ثمانية أميال في البحر، جاء مركب أكبر من الذي قلّهم، وصعد جميع المهاجرين عليه، وأصبحوا قرابة المئة شخص، منهم 24 امرأةً وطفلاً من جنسيات متعددة منهم؛ سوريون، صوماليون، سودانيون، فلسطينيون، وعراقيون.

وتابع معاذ: "كان معي شوية أدوية وأكل لابني، لأنه كان يشرب سوائل كثير، ويحتاج سكر بشكل مستمر. عرف قبطان السفينة بقصته وأعطاني كيساً من السكر. فكنت أحط السكر تحت لسان ابني عشان يتحول لسكر في الدم. وبعد حوالي 20 ساعة وصلنا إلى المياه الإقليمية، وجاء مركب ثالث أكبر من الذي يحلمنا وصعدنا إليه، كان هشاً وقديماً ويتأرجح في البحر بشكل مخيف. كان هناك سبعة أفراد على السفينة، منهم واحد اسمه حسن، كل ما يتقاتل معنا يقلنا هيني نازل أفتح العبّارة (مكان أسفل السفينة) لنغرق جميعاً. وبعد 15 ساعة وصلنا إلى حدود ليبيا. وفجأة تعطل المركب. كان في المركب طابق أرضي خشبي، وكانت المياه تدخل منه. والطابق الذي كنا نتواجد فيه، كانت المياه تدخله بسبب تأرجحه، فكنا كشباب نوزع أنفسنا على سطح السفينة، وكل واحد منا معه دلو ليعيد الماء إلى البحر".

لم يهتم الوالد سوى لصحة ابنه التي كانت تتراجع كلما دارت عقارب الساعة. وما زاد الأمور سوءاً هو إصابة معظم ركاب السفينة بالإنفلونزا والقيء والغثيان. كان أصحاب المركب يعطون المهاجرين ثلاثة أكواب ماء يومياً فقط.

وأضاف: "كنت أعطي ابني حصتي من المي، ولما كنت أعطش كنت أعبي كأس من ماء البحر، وأحط عليه سكر، كنت أتعب جداً ولكن ما كان بإيدي حل. وزوجتي كانت تشرب كاسة لأنها حامل وتعطي الكاسة التانية لمحمد. فعرف حسن بالقصة وتكفل بأن يوفر لمحمد ما يحتاجه من الماء... وفي عصر اليوم الأول لتعطل السفينة، نادتني مهاجرة سورية وقالت لي تعال شوف ابنك. رحت لقيت وجهه أزرق أزرق، حاولت أحكي معه على الفاضي. فجأة طلع دم من أنفه وفمه بقوة، ولفّ رأسه بقوة ثم مات. أول كلمة قلتلها الحمد لله. زوجتي صمتت ونظرتلي نظرة عتاب لأنها كانت رافضة السفر من الأول، ولكن بدي أعالج ابني فش حل بإيدي. كان معنا واحد صيدلي ناديناه ليرى محمد، جاء وفحص نبضه، فوجده ميتاً، طلع من الغرفة وما حكى ولا كلمة".

وأردف: "غطيت وجهه، وحطيته جنب أمه بنفس الغرفة، وضل ثلاثة أيام على نفس الحال وإحنا مقطوعين قبالة سواحل ليبيا. بدت ريحة الجثة تفوح، فجاء ريس السفينة لحسن، وقله ارمِ جثة الطفل في البحر، غضب حسن منه وقله كيف أرميه في البحر؟ العيال أحباب ربنا. قلتلهم والله إلي بقرب عليه لأرميه في البحر. لكني كنت أعرف أن النساء في الغرفة تضايقن بسبب الرائحة، فحملته وصعدت به لسطح أعلى غرفة بالسفينة. حضنته وبسته من جبينه، والله ما شممت له أي ريحة، كان وجهه أبيض أبيض. ضليت على هاد الحال يوم كامل".

كان أصحاب السفينة يمنعوننا من إضاءة أي مصباح عندما يدخل الليل، خشية أن يراهم أحد من حرس الحدود الليبيين أو المصريين. فاقترح أحد الركاب أن يصعد بعضهم عندي فوق في الليل وأن يضيئوا بمصباح يد "كشاف" كان مع أحدهم بكل الجهات ودون أن يراهم أصحاب السفينة، لكنهم تخوفوا من ردة فعلهم.

وقال معاذ: "اتفقنا أن نضيء المصباح ونلوح به بكل الجهات بمجرد أن يدخل الليل دون علم أصحاب السفينة، وبالفعل بمجرد أن دخل الليل، بدأ نضيء بالمصباح بكل الجهات، رآنا أصحاب السفينة، وهددنا أحدهم إن لم نطفئ المصباح سيُغرق السفينة بأكملها. أخذ منا المصباح، وبعد أقل من ساعة جاء الجيش المصري على مركبهم، ولست أعلم بصراحة سبب مجيئهم إن كان ضوء المصباح أم سبب آخر، وثبتونا بالسلاح. ولما عرفوا أننا مهاجرون، أعطونا طعام وماء، صارت زي المجاعة بالسفينة إلنا أسبوع ما أكلنا. بعدين أخذوا النساء والأطفال عندهم، وتركونا (الشباب) في سفينتنا وربطوها بسفينتهم، ونقلونا إلى النادي البحري بالأنفوشي (مكان مخصص للمهاجرين غير الشرعيين في الإسكندرية). أول ما وصلنا البر زوجتي نظرت إليّ نظرة عتاب نفس النظرة إلي نظرتلي إياها لما مات ابني".

وبعد أن وصلوا بسلام، نقل الجيش المصري معاذ وزوجته إلى مشفى في الإسكندرية، للاطمئنان على الجنين، وكانت المفاجأة أنه بخير. ووضعوه جثة محمد في ثلاجات الموتى بعد أن حقنوها بمادة الفورمالين حتى لا تتحلل. هاتف معاذ أهله بغزة وأخبرهم أن يحفروا قبرا لابنه. وفي اليوم التالي جاء مندوب من السفارة الفلسطينية بالقاهرة وأخبره بضرورة دفن ابنه في مصر لصعوبة إجراءات نقل جثته إلى القطاع.

وتابع معاذ: "لكنّي رفضت. وبعد ثلاثة أيام من الاتصالات والمحاولات استطعنا الحصول على موافقة رسمية ونقلناه إلى غزة".

نظر الأب لابنه وهو يحضنه للمرة الأخيرة قبل أن يضعه في القبر، لكن وجهه قد أصبح شاحباً بسبب تأثير الفورمالين وتركه أربعة أيام بعد موته في الهواء. "وجهه صار حنطي مش أبيض، وسنانه ازداد طولهم بسبب تحلل لثته. هلقيت بروح على قبره وبقله سامحني يابا، بس والله مهو في إيدي إلي صار" قال معاذ.

ما زالت صورة محمد بوجهه الأبيض، تزين خلفية هاتف والده الذي لا ينفك من النظر إليه، ولا يغيب عنه لحظة حمله واحتضانه على أعلى مكان بالسفينة لئلا يتضايق الركاب من رائحة جثته. وقبل أن تغادره المشرق نيوز قال لمراسلها إنه: "والله ما شممت منه إلا رائحة المسك عندما وضعته في القبر".

وفي السياق ذاته، قالت إحصائية للمرصد الأورومتوسطي إن عدد المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط خلال 2017، بلغ 171.239، منهم 3081 مفقوداً.

يذكر أن المرصد الأورومتوسطي نشر 130 اسماً لمفقودين من غزة في 2014/9/9، كانوا يحاولون الهجرة إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط بطريقة غير شرعية.

انتهى