ديمقراطية الدم بقلم : عبدالله السويجي

ديمقراطية الدم  بقلم : عبدالله السويجي
ديمقراطية الدم بقلم : عبدالله السويجي

ديمقراطية الدم

بقلم : عبدالله السويجي

حين انطلق ما أطلق عليه في البداية ب(الربيع العربي)، حظي بإعجاب وحماسة أكثر من 90% من الشعوب العربية، خاصة أنه بدأ بداية سلمية بيضاء ولا سيّما في تونس، وعندما انتقلت عدواه إلى الدول الأخرى، ترك مصر تنوء تحت الفوضى والبطالة، منقسمة بشكل حاد بين مجموعتين شرستين، كل واحدة تطمح وتسعى بكل السبل إلى التفرّد بالسلطة، بينما ترك هذا (الربيع) ليبيا تحت رحمة بنادق المسلحين الذين لم يتوانَ بعضهم عن اغتصاب فتاتين مسلمتين أمام أبيهما، ولم يتردد بعضهم في اقتحام البرلمان والمؤسسات الوطنية ساعة يشاؤون . أما اليمن فتركها نهباً للقتل والفوضى والمظاهرات ولتنظيم القاعدة، كما ترك العراق ضحية للصراع الطائفي والمذهبي، حيث الفساد والمحسوبيات والانشقاقات والفتوات . وبعد أن حط رحاله الآن في سوريا، فإنه يعيث فساداً ودماراً وحرقاً وقتلاً، ويلوكها بأسنانه الحادة بهدوء قبل أن يلفظها لتصبح بين يدي البنك الدولي و(فتوات الحارة) و(الفضائيات) .

 

حين مر (الربيع العربي) في هذه الدول، واكتسب سمعة سيئة في كل مرة كان يمر بها، تراجعت نسبة الإعجاب والحماسة، وباتت كلمة (ثوار) تدعو إلى السخرية والاستهزاء، بل صارت كلمة (جهاد) مدعاة للتفكه والتندّر، خاصة بعد الفتاوى التي أطلقها بعض (رجال الدين) من هنا وهناك، وبعد أن تحول الجهاد إلى حرب بين المسلمين، وقد قال لهم الله تعالى، إن القاتل والمقتول في النار، خاصة أيضاً بعد انتعاش منهج التكفير، وقد قال لهم الله جل جلاله، إن من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يمكن تكفيره . بعد كل هذا، بدأ المحللون والكتاب السياسيون يسمون (الربيع) بالخريف العربي، أو الحريق العربي، أو الفوضى العربية، وصار (الربيع) فرصة كبيرة لتجار السلاح والانتهازيين، وكما قال رئيس الائتلاف الوطني السوري الشيخ معاذ الخطيب، فإن بعض وجوه المعارضة تمارس الابتزاز والتصرف بشكل غير لائق . بعد كل هذا، أصبحت الشعوب تعيش حالة من خيبة الأمل والنكوص والهزيمة، فليس من أجل هذا خرج الناس إلى الشوارع، ومات البعض، وتم تدمير مدن وقرى بأكملها، فقد تكبدت ليبيا زهاء 50 ألف قتيل، وتكبدت سوريا حتى الآن أكثر من70 ألف قتيل، فضلاً عن الجرحى والمعاقين واليتامى والأرامل والفقر والجوع والبطالة والتهجير واللجوء .

 

خرج الناس يطالبون بالحرية والديمقراطية، فإذا بهم يجدون أنفسهم بلا حرية وبلا ديمقراطية، فأنظمة اللون الواحد رحلت لتحل محلها أنظمة بلون واحد أكثر استبداداً، والفرق بين الأنظمة السابقة، هو أن الأنظمة الجديدة تريد العودة بالمجتمعات إلى عصور التخلف والتطرف والحروب المذهبية والطائفية والدينية، وتريد هذه الأنظمة حبس المرأة في البيت مع الإبقاء عليها جاهلة كل وظيفتها إمتاع الرجل والتناسل، ونسيت هذه الأنظمة وهؤلاء المتطرفون أن الرسول في خطبة الوداع أوصى بالنساء خيراً، وحض على التمسك بما جاء في القرآن الكريم .

 

الناس مندهشون من ممارسات هؤلاء، وباتوا يشعرون بأن هناك إسلاماً جديداً يعرض عليهم، يبشر به بعض أصحاب اللحى الكثة والوجوه العابسة والرجال الذين يحملون السيوف والخناجر ويقتلون كل من بطريقهم، ويزجرون كل امرأة في طريقهم، حتى إن بعض الكتاب وصفهم بأنهم خطفوا الإسلام إلى مكان آخر غير مكانه .

 

لنتخيل أن هؤلاء وصلوا إلى سدة الحكم، فإن أول شيء سيقومون به هو إثارة الفتنة وتأجيج الحروب المذهبية، وما يحدث في العراق نموذج واضح وفاضح وصريح، يفجر الانتحاريون أنفسهم في المساجد والمزارات، ويدّعون أنهم يحاربون في سبيل الله، والأمر الثاني أنهم سيسجنون المرأة داخل جدران أربعة ويمنعون عنها كل ما يشكّون أنه مثير للفتنة، وحسب منظورهم، التلفزيون فتنة، والمسرح فتنة، والسينما فتنة، والعمل فتنة، والكتابة الإبداعية فتنة، وقيادة السيارة فتنة، وسيغطون النساء حتى لا يظهر منهن سوى الصوت الخفيض، فلا يشاركن في التنمية ولا التطور ولا تربية النشء ولا الارتقاء بالوطن، فهؤلاء لا يعترفون بمصطلح الوطن، وإنما بالخلافة فقط، في عصر تجاوز كل هذه (الفتن) .

 

يبدو أن فكرة الفوضى غير الخلاقة بدأت تتجسد في عالمنا العربي، الفوضى التي تلد فوضى، إلى أن تصبح المجتمعات تحت حكم العصابات، فتنهار الدولة، وتغيب الخدمات، وتصبح ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من المحرمات، فينهار الاقتصاد، وتتوقف الصناعة، وتعدم السياحة، وتتوقف التجارة مع العالم (الكافر)، وتعود البغال والحمير تجر العربات، فالسيارات من إنتاج (الكفار)، وتقفل حدود (الخلافة)، ويقوم الولاة بجبي الضرائب وجمع الجزية من الفقراء، ومن يرفض يجلد، ومن يعبر عن رأيه يقتل أو يسحل، حتى لو كان شيخاً جليلاً كبير السن، وأسجل اندهاشي هنا من قول أحد الأئمة المعروفين، حين وصف مقتل الشيخ محمد البوطي (83 سنة) بالأمر الرائع، لأنه “شيخ كان يحرض على الضلالة”!

 

أنا على يقين من أن الناس الذين تظاهروا من أجل التغيير في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، كانوا يجهلون أن مصير بلدانهم ستكون كما يرونها الآن، فالديمقراطية نظام حضاري لا يمكن الوصول إليه في مركب يسير في نهر من الدماء والفتنة المذهبية، وزرع الكراهية بين أبناء الشعب الواحد، والحرية فكرة أزلية لأن الله خلق الناس أحراراً ولا يحق لأحد أن يستعبدهم تحت أي ذريعة كانت .

 

إن أخطر ما في الأمر، أن الناس باتوا يخشون التغيير، طالما أنه سيؤدي إلى تشريد الناس من بيوتهم ليصبحوا لاجئين، وطالما أنه سيخلق العداوة والبغضاء بين الجيران وأبناء الحي أو المدينة أو البلد الواحد .

 

هنالك أخطر من هذا، لقد اكتشف الناس، وهذا ما علمهم إياه (المجاهدون)، أن “إسرائيل” ليست عدوة، وبالتالي يمكن ل(المجاهدين) تلقي العلاج في مستشفياتها، ويمكن الحصول على أسلحة منها، والجهاد ضد العدو الذي يقتل المسلمين ويحرق بيوتهم ويحتل أراضيهم في فلسطين، لا يشمله الجهاد .

 

ترى، أي مبادئ يجري ترسيخها، وأية قيم يجري نشرها، وأية سياسات وقناعات يتم تثبيتها؟ ورغم ذلك، يصرّ البعض على المضي قدماً في دعم هؤلاء، والله من وراء القصد .