اسطنبول -
فهمي كنعان، فلسطيني أبعدته إسرائيل عن والدته لأكثر من 17 عاما، لكن مدينة إسطنبول التركية كانت مكان لقاء عابر للتوصيف بين الأم ونجلها.
ففي إسطنبول، وبعد فراق امتد لسنوات، التقى المبعد الفلسطيني عن الضفة الغربية مع والدته التي حرمه الاحتلال الإسرائيلي لقاءها في الأعوام الماضية.
سجون ومطاردة وإبعاد
معاناة فهمي (47 عاما) امتدت لثلاثة عقود، تخللتها 5 اعتقالات من قبل الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993)، كلفته 4 سنوات وراء القضبان.
وتلت السجون مطاردة من قبل الجيش الإسرائيلي لنحو 6 سنوات، وفي المرحلة الأخيرة من حياته في الضفة الغربية، تم حصار كنيسة المهد في بيت لحم بالضفة، حيث تحصن فهمي مع عشرات المقاومين الفلسطينيين لمدة 39 يوما.
وعقب الحصار المفروض، وافقت السلطات الإسرائيلية بوساطات دولية وأوروبية، على إبعاد عشرات الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى قطاع غزة أو إلى خارج فلسطين، على أن يعودوا إلى الضفة خلال عام أو اثنين.
لكن إسرائيل تنكرت لوعودها، ولم توافق على إرجاع فهمي إلى الضفة الغربية، بل لم تسمح حتى لعائلته بزيارته في غزة المحاصرة.
وقبل عام ونصف، قدم فهمي إلى تركيا بهدف إكمال دراسته للحصول على درجة الدكتوراة، ومن ثم أحضر عائلته المكونة من 6 أطفال إلى تركيا.
اللقاء
كاميرا الأناضول رافقت فهمي إلى مطار أتاتورك لاستقبال والدته التي لم يرها منذ 17 عاما.. لحظات عاطفية بالنسبة إلى رجل قضى حياته بين السجون والمطاردة والإبعاد، محروما من لقاء أحب الناس إليه.
بدا اللقاء أكثر تأثيرا من أن توثقه عدسة الكاميرا، وأعمق من أن تصفه الكلمات.. الدموع كانت سيدة الموقف، والعناق الحار والتمتمات هيمنت على تلك المساحة الصغيرة من المطار حيث اتجهت أنظار جميع المتواجدين نحو الأم وابنها.
وفي أول كلماتها عقب اللقاء، قالت الحاجة فتحية كنعان (70 عاما): "الحمد لله على لقاء ابني، مضت سنوات كثيرة لم أقابله ولم أره فيها... كنت أتمنى أن أضمه إلي، وحجم اشتياقي له لا يوصف".
ولاحقا، تحدثت الحاجة فتحية للأناضول عن تفاصيل معاناتها وحرمانها من ابنها قائلة: "إبعاد ابني عن الضفة الغربية أورثني معاناة كبيرة".
وأضافت: "قبل ذلك، وحين كان معتقلا في السجون الإسرائيلية، كنت أذهب لزيارته لوحدي، وكان حتى هذا الأمر يسبب مشقة لي، خصوصا وأنه سجن خمس مرات، عدا عن ظروفي الصحية الناجمة عن آلام في القدم والظهر".
وتابعت: "عقب إبعاد ابني إلى قطاع غزة زادت المعاناة والتعب، وقالوا (السلطات الإسرائيلية) لنا إنه سيبعد من عام إلى اثنين فقط، لكنها طالت حتى 16 عاما.. كنا مشتاقين ومتلهفين أن يعود إلينا".
أبعد فهمي ليترك أما مكلومة وعائلة مشردة، "أحفادي تربوا في غزة" تتابع الحاجة فتحية، و"لم نستطع رؤيتهم، وما زلنا نعاني من قسوة الإبعاد".
وبذات النبرة الحزينة: "كنا نتمنى أن يبقى بيننا، وكانت لدينا نية أن نزوره مع والده، لكن زوجي توفي قبل عدة أشهر، ولم نستطع أن نجتمع سوية، ونتمنى من الله أن يلم الشمل ويجمعنا على خير".
رحلة نضال تنتهي في تركيا
فهمي عاد بالأناضول إلى تفاصيل رحلته في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقال: "منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 سجنت خمس مرات، معظمها كانت أحكاما إدارية".
وتابع: "تنقلت حينها في أكثر من 15 سجنا ومركز تحقيق إسرائيلي، وكانت والدتي تزورني في السجون الإسرائيلية الممتدة من الجنوب الفلسطيني المحتل إلى الشمال".
وأردف: "استمرت مطاردتي من قبل الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من 6 سنوات، وأصبت خلالها مرتين، إحداهما في الاجتياح الإسرائيلي لبيت لحم، وبعد ذلك تم حصارنا في كنيسة المهد لنحو 39 يوما، قبل إبعادنا إلى قطاع غزة عام 2002".
وهناك في القطاع، قضى فهمي أكثر من 15 عاما، ورفض الاحتلال الإسرائيلي منح تصاريح لأقاربه في الضفة الغربية لزيارته، ليحرم بذلك من رؤية أهله.
وقبل عام ونصف، غادر فهمي غزة متوجها إلى تركيا لإكمال دراسته.. وفي إسطنبول، كان اللقاء الذي وضع حدا لسنوات طويلة من الفراق والألم.
فرحة عارمة بدا أن الرجل عاجز عن وصفها بالكلمات، لافتا إلى أن حجم سعادته اليوم لا يشوبها سوى فقدان والده الذي كان يتمنى أن يكون موجودا أيضا، لكن المنية اختطفته قبل عدة أشهر.
رحلة كفاح طويلة تحفظ ابنته إسراء (13 عاما) تفاصيلها عن ظهر قلب، وهي التي واكبت بعض مراحلها.
وفي حديثها للأناضول قالت إسراء: "ولدت في قطاع غزة، وواجهنا في حياتنا الكثير من الصعوبات جراء الحصار المفروض على غزة، كما أنه لم يكن لدينا أقارب بالقطاع".
وأضافت: "اتخذنا قرار الخروج من قطاع غزة، وجئنا إلى تركيا، وبدأنا بتأسيس حياتنا من جديد، والتحقنا أنا وإخوتي بالمدارس، ومضى علي في تركيا نحو عام واحد، واستطعنا خلاله تعلم اللغة التركية".
وختمت مبتسمة: "أمس، جاءت جدتي، وكانت تلك أول مرة ألتقيها فيها.. سعيدة أنا بذلك، وسعيدة لأن والدي التقى والدته بعد كل ذلك الزمن".
وفي 10 مايو / أيار 2002، أبعدت إسرائيل 39 مواطنا فلسطينيا احتموا داخل كنيسة المهد في بيت لحم، وفقا لاتفاقية فلسطينية إسرائيلية.
وتم إبعاد 13 منهم خارج فلسطين عن طريق مطار بن غوريون، قبل نقلهم إلى قبرص، ثم وزعوا على عدة دول أوروبية، فيما جرى إبعاد 26 آخرين إلى قطاع غزة بواسطة حافلات.