ثورات الخبز والرغيف العربي بقلم: سالم سالمين النعيمي

ثورات الخبز والرغيف العربي  بقلم: سالم سالمين النعيمي
ثورات الخبز والرغيف العربي بقلم: سالم سالمين النعيمي

ثورات الخبز والرغيف العربي

بقلم: سالم سالمين النعيمي

قامت الثورات في ما يسمى بدول «الربيع العربي» كاحتجاج على هدر كرامة الإنسان والرغبة في العيش الكريم، بل لا نبالغ إذا قلنا للحصول على رغيف خبز بمواصفات صالحة للاستهلاك الآدمي، فكانت بكل بساطة صرخة في وجه عدم احترام إنسانية الإنسان وارتفاع نسبة الفقر، حتى أصبحت نسباً كبيرة من تلك الشعوب تحت مستوى خط الفقر.

وبتجرد كان الوضع الذي كانت عليه الشعوب أفضل مما هي عليه اليوم بمراحل عديدة، حيث تسيطر على المشهد السياسي حكومات الأحزاب السياسية الدينية مستخدمة استراتيجية «التقية السياسية» الممزوجة بالتقوى الإعلامية والدعاية السياسية الأقرب لحملات التسويق لبيع منتج ما وفق خطب وشعارات تؤكد بين الحين والآخر، أنها حكومات تمثل الشعب، وليست حكومات تدار من وراء الكواليس، ولا تكتب خطبها من وراء حجاب. والخطاب السائد والمعهود أننا حكومات نؤمن بالديمقراطية، ولن يصبح البرلمان جزءاً من ساحات منازلنا الخلفية، ويخالف كل تلك الادعاءات التلميح الصريح بالخلافة السادسة ونظام الشورى، وبموجب هذه العقلية تمت السيطرة على البرلمانات، بل جمعيات صياغة الدساتير، وانقلاب على القانون لـ«حزبنة» القضاء.

وبعد مضي سنتين على «الربيع العربي»، أتضح انقضاض الأحزاب الدينية على الحكم ودمجها للسلطات بعد تفاؤل شديد أقرب إلى الغرور والسذاجة حول سهولة استيراد الديمقراطية ومشاركة شباب الثورة في إدارة بلدانهم، ولكنهم صدموا بواقع مرير وعزلهم عن الحياة السياسية، وليعودا إلى مركز انطلاق ثورتهم الأولى الإنترنت ووسائل الاتصالات الحديثة للثورة من جديد، ولكن هذه المرة على الثورة، وعلى العراب الذي يقف خلف الكواليس، يحرك وينسج الخيوط، وبيديه شفرات مستقبل الثورة. فبعد الاحتفالات المحمومة التي أعقبت الإطاحة بالأنظمة السابقة، كنا نأمل بالنظام فوصلنا للفوضى الشعبية الخلاقة.

في مرحلة ما بعد «الربيع»، تم التخلي عن الكثير من الآمال في مواجهة واقع يغلب عليه السخط الكامن في النفوس بعد عودة سلبيات الأنظمة القديمة بمسميات مختلفة. والفرق الوحيد أن الحياة أصبحت صراعاً يومياً للبقاء، ومسألة توجيه عملية الانتقال الاجتماعي والسياسي بصورة جماعية نحو الإصلاح الديمقراطي أصبحت مستحيلة في ظل انهيار غير مسبوق للقطاعات الأمنية لفرض سيادة القانون والحاجة الماسة لتغيير الوعي العام، لأن الفكر السائد في عقول الشعوب، أن وظيفة تلك الأجهزة ليست حماية المواطنين، بل حماية النظام، وقمع المعارضة الداخلية، كما أن اهتزاز صورة دور قوات الأمن داخل المجتمع وتدخل الجيوش في أدوار حفظ السلام والأمن الداخلي جَيّش مشاعر تلك الشعوب، وأصبح الشعب ينظر للجان الثورية والشعبية والحزبية والميليشيات، كأدوات إنقاذ عام لما يمكن إنقاذه لعودة النظام للشارع، فالحفاظ على مكاسب وتطلعات «الربيع العربي» يعني، كخطوة أولى إصلاح وإعادة تقويم المؤسسات الأمنية كشرط أساسي لبناء السلام، وبناء الدولة وسياسات مصممة خصيصاً للظروف الوطنية، وجعلها خاضعة للمساءلة لتغيير الممارسات الراسخة دون المساس بالالتزامات الخارجية لتحقيق هذه الإصلاحات.

ومن جانب آخر، فإن ما يسمى «الربيع العربي» يتكون من خليط غير متجانس من المظاهرات المناهضة للحكومة، يقابلها الإفراط في رد الفعل وتغذيها الأوقات الاقتصادية الصعبة والتوترات العرقية والدينية والقبلية، وليس هناك شك في أنه حتى في ظل أفضل السيناريوهات، فإن أي نوع من الانتخابات في دول «الربيع العربي» ستخدم في اتجاه واحد فقط، هو تعزيز قوة وهيمنة الأحزاب السياسية الإسلامية وتكتلاتها وهذا، بدوره، لا بد أن يؤدي إلى تفاقم التوترات بين الطوائف المختلفة ومن يؤمنون بديانات مختلفة، ويتبنون مذاهب مغايرة أو يحملون فلسفات وفكراً مختلفاً، وزيادة تأثير الدين في تأصيل الحياة الطبقية. ففي تلك المجتمعات تعاني الطبقة الوسطى من غياب مكونات بيئة العمل المثالية، ومن شح في الاستثمار الأجنبي بجانب تقليص في الحجم والتأثير، ومن ضائقة اقتصادية، والفقراء كذلك في الوقت نفسه، وهناك صراع على السلطة بين الجماعات المختلفة، وحتى على هوية تلك الدول، وأن ما يحدث في الشرق الأوسط، لا ينسجم مع الديمقراطية الليبرالية، والوضع الحالي يحد من قدرة الدول الكبرى على تشكيل الأحداث في الشرق الأوسط.

ولربما قد حان الوقت لشعوب دول «الربيع العربي» للبدء في كتابة الروايات الخاصة بهم، ويجب أن يفهم القارئ العربي أن من ساهم في خلع الشاة ومساعدة آية الله الخميني في الجلوس على سدة الحكم في إيران على سبيل المثال ليس نادماً اليوم، ولا يعض أصبع الندم كما تصوره صحافته وتصريحات سياسيه ومفكريه، لأن الهدف واضح، هو وجود مصادر طاقة متوافرة للاستهلاك دائماً، فهناك مناطق من العالم محددة كبئر منتج وأخرى آبار احتياطية وكذلك الحال على كل مصادر الطاقة وفق مبدأ توافر الطاقة، هو صمام أمان الأمن القومي لأي دولة سواء كانت عظمى أم ناشئة لاستمرارها في المستقبل، وازدهارها ويقابل ذلك الإسلام السياسي، الذي لا يخجل في الاعتراف بجلب البرجوازية مرة أخرى، وتبني مبادئ الرأسمالية الغربية بعد شرعنتها، ووضع حواجز ناعمة، ولكنها ذكية صعبة الاختراق بين الجمهور والقطاع الخاص والدولة والاقتصاد، وتكفل لمحركي السوق الرئيسيين مثل المؤسسات العسكرية في الاستمرار في حماية نسبتها الكبيرة، والتي لا تقل عن 30 في المئة من حجم الاقتصاد الوطني، وعقد تحالفات المصالح التجارية مع كبار رجال الأعمال الإسلاميين الحزبيين لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود، وسيعود الشعب يعاني وتسلب ثرواته وتقسم التركة، وهو يعمل في حقول الإقطاعيين الحزبيين ومصانعهم برواتب زهيدة.

الوقت يمر، ولا نرى أي صعود يذكر للسلطة الشعبية ولا للعقلانية الدبلوماسية وتراجع الصحوة الديمقراطية كفريسة سهلة للجغرافيا السياسية الدينية الغامضة والأسوأ من ذلك، ظهرت غيوم حروب باردة تلوح في الأفق بين أشقاء الأمس أعداء اليوم باسم عسكرة اللاهوت السياسي والتمتع بعلاقات وثيقة مع الثيوقراطية الإيرانية.

ولا تزال الاحتجاجات منذ بداية الثورات لا تتغير، بل تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فمن احتجاج ضد أسعار الغذاء وهيمنة القادة الفاسدين وعدم مساءلة الحكومة، وانتهاكات حقوق الإنسان وإراقة الدماء والاستبدادية الحزبية، وأسلمة الدستور ووضعه في منفى جبري، فإن مستقبل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر تقلباً وغير مؤكد.

اليوم أصبحت هناك اتجاهات مختلفة في العالم العربي، تتمثل في إعادة فتح خطوط الصدع الطائفي على طول التقليدية والقبلية وإثارة الانقسامات الداخلية، والاتجاه الثاني يتمحور حول التطرف الديني وتعزيز هيمنة النفوذ الإسلامي، بما في ذلك الدول التي شهدت تغيير النظام، وقد تم فتح فرص جديدة لحصول الحركات الإسلامية على مساحة لممارسة النفوذ، التي كانت تحلم به لعقود طويلة وتحقيق أنفسهم إلى مرحلة الوسط، وانقسام الشرق الأوسط إلى «الهلال السُني» بقيادة تركيا ودول الخليج العربي والأردن ضد «الهلال الشيعي» إيران والعراق وسوريا ولبنان. وفي الجانبين يوجد مؤيدون لهلال الآخر بحكم الانتماء المذهبي والمسابقة الإقليمية على النفوذ الجيوسياسي بين تركيا وإيران تلقي بظلالها على طول دول «الربيع العربي» والمحور الثالث في الاتجاه يتمركز في محاولة دول عربية صغيرة، أخرى خلق بدائل لإدارة الصراع ولعب دور الوسيط المؤثر. والاتجاه الرابع هو أن «الربيع العربي» قد أصبح نقطة انطلاق للعب الجغرافيا السياسية بين القوى العظمى، وسوريا أصبحت ساحة المعركة الرئيسية لهذه الجغرافيا السياسية على غرار الحرب الباردة.